آخر تحديث :الأربعاء-25 يونيو 2025-01:21ص

‏الاسكندرونة.. قلعة شامخة على ضفة المتوسط فتحها اليمنيون وأهملها العرب!

الأربعاء - 25 يونيو 2025 - الساعة 01:06 ص

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


لواء الاسكندرونة السوري، أحد المناطق التابعة لولاية حلب، وميناؤها على البحر الأبيض المتوسط، يسميه البعض "الألزاس واللورين" السورية، ارتبط بمحافظة حلب السورية تاريخيا، وتعامل معه العثمانيون باعتباره جزءا من لواء حلب.


وكان يضم ثلاثة أقضية عثمانية هي: بيلان وانطاكية واسكندرونة. دخلته القوات التركية عام 1939م واحتلته قسرا، معلنة ضمه رسميا إلى تركيا، وسمته محافظة "هاتاي" وهو يتصل من الشمال الغربي بكل من: حلب واللاذقية وأدلب. وكلها مدن سورية معروفة إلى اليوم. دخل في معاهدة سايكس بيكو ضمن "المنطقة الزرقاء" "البلاد الساحلية الممتدة من الناقورة إلى الاسكندرونة" التابعة لفرنسا التي كانت تحتل سوريا حينها، مقابل المنطقة الحمراء التي كانت من نصيب بريطانيا، وتشمل البصرة وبغداد. وشهد اضطرابات ومظاهرات عنيفة بعد سايكس بيكو، وتم تداول قضيته في مجلس عصبة الأمم الذي قرر أن تكون الاسكندرونة إقليما منزوع السلاح، مع منحه حكما ذاتيا، وحقوقا خاصة للسكان الأتراك فيه؛ علما أن هذا اللواء يضم إلى جانب الأتراك طوائف أخرى كالعلويين والسنة والمسيحيين والأرمن والشركس واليهود والأكراد.


مساحة هذا اللواء في حدود خسمة آلاف كيلو متر مربع؛ وزادت أكثر بعد أن ضمت إليه تركيا مقاطعتي: "باياس" و "إصلاحية" التركيتين. الكارثة بدت أكثر حين تواطأت فرنسا وبريطانيا آخر ثلاثينيات القرن العشرين على تسليم هذا الإقليم لتركيا؛ على الرغم من موقف تركيا من الحرب العالمية الأولى التي لا تزال آثارها على سطح الأحداث يومها، والأكثر كارثية أنه بعد سيطرة القوات التركية نزح كثيرون من السكان العلويين والسنيين والتركمان السوريين من الاسكندرونة باتجاه حلب واللاذقية وأدلب المجاورات لها، وأيضا دمشق، في الوقت الذي عززت تركيا بسكان أتراك آخرين إلى الإقليم، ليصبح أكثر "تتركا" وفعلا كان الأمر كذلك، حتى أصبح العرب في هذا اللواء أقلية.!


ويشكل لواء الاسكندرونة أهمية استراتيجية لتركيا وسوريا على حد سواء، فهو يقع على ضفاف خليج الاسكندرونة، المطل على البحر الأبيض المتوسط، متحكما بالبوابة الشمالية لبلاد الشام، ومسيطرا على واحد من أهم الموانئ البحرية على البحر المتوسط؛ والأهم من ذلك مواجهة شاطئ الاسكندرونة لشواطئ قبرص، الجزيرة التي تقع على مدخل أوروبا، والتي تعتبر نقطة عبور متصلة بقارتي آسيا وأوروبا. والسيطرة على هذه الشواطئ تمثل ضمانة قومية للدولة المسيطرة عليه تجاه أي اعتداءات عسكرية خارجية، وتجاه التهريب والهجرات غير الشرعية.


وشهد لواء الاسكندرونة حروبا تاريخية كبيرة منذ الاسكندر المقدوني مع الفرس الذين دمروها في القرن الثالث الميلادي في عهد ملكهم "دارا" كما مثلت أحد الثغور الإسلامية المهمة في العصر العباسي، حيث بنت فيه "زبيدة"، زوجة الرشيد حصنًا بقي شامخا حتى قدوم الصليبيين إلى الشام آخر القرن الحادي عشر الميلادي. وبقيت تحت سيطرتهم حتى بعد منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، فحررها الظاهر بيبرس المملوكي سنة 1268م، وضمها إلى ولاية حلب السورية.


ومن أهم مدن الاسكندرونة "انطاكيا" وقد فُتحت في عصر أبي جعفر المنصور، وبحسب المؤرخ محمد حسين الفرح: فإن فاتح هذه المنطقة القائد اليماني أبو حميد معيوف بن يحيى الحجوري الهمداني، أمير وقائد الغزوات الصيفية إلى أرض الروم، في أعالي تركيا منذ سنة 153هـ، وفاتح جزيرة قبرص مع ابنه حميد بن معيوف سنة 190هـ الذي ولاه الرشيد سواحل بحر الشام كاملة حتى مصر، بحسب الطبري". انظر أيضا: الدور اليمني في العصر العباسي، محمد حسين الفرح، 610. وانظر أيضا: تاريخ الرسل والملوك، الطبري، 320/8،

مضيفا: كانت أولى الغزوات التي قادها إلى أرض الروم في خلافة أبي جعفر المنصور سنة 153هـ. قال الطبري في تاريخ الرسل والملوك عن أحداث 153هـ، "وفيها غزا الصّائفة معيوف بن يحيى الحجوري، فصار إلى حصنٍ من حصون الروم ليلا وأهله نيامٌ فسبى وأسرَ من كان فيه من المقاتلة، ثم صار إلى اللاذقية المحترقة ففتحها، وأخرج منها ستة آلاف رأس من السبي سوى الرجال البالغين". انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبري 34/8؛ علما أن انطاكيا السورية كانت قصبة سوريا "عاصمتها" أثناء الاحتلال الروماني لسوريا قبل الإسلام؛ بل وكانت واحدة من أهم ثلاث مدن في الإمبراطورية الرومانية إلى جانب روما والإسكندرية.


وكانت تسكنها قبائل عربية مثل تنوخ والبهرة وبني كلاب؛ أما في عصر الانتفاضات العربية ضد الحكم العثماني، فقد كانت الاسكندرونة من أوائل الأقاليم والألوية العربية التي انتفضت في وجه الأتراك وهُوجمَ الجيشُ التركي فيها، وأُعلنت الحكومة العربية رسميا في انطاكيا في نوفمبر تشرين ثاني 1918م، ولكن آلَ الأمرُ في النهاية لسيطرة فرنسا عليه التي استولت على الميناء ونشرت قواتها في اللواء. وخلال هذا العام اجتمعت ثلاثة قوى عسكرية في لواء الاسكندرونة: القوة العسكرية التركية في بيلان، والقوى العربية في انطاكية، والقوة الفرنسية في الاسكندرونة "مركز اللواء". ولم تدم القوة العربية فيه أكثر من عام واحد؛ حيث انسحبت قوات الشريف حسين مسلمة المنطقة للمندوب الفرنسي "اللنبي". وحينها بدأت الخطواتُ العملية لمخرجات سايكس ــ بيكو في التنفيذ. ومع هذا فلم يكن تسلم فرنسا للواء الاسكندرونة من قبل الشريف حسين إلا لتسليمها لاحقا لتركيا، ضمن صفقة سرية أفصحت عنها المخابرات البريطانية؛ حيث نصت اتفاقية سرية بين الأتراك والفرنسيين عام 1921م على تخلي الفرنسيين عن كافة لواء الاسكندرونة لتركيا، بشرط أن يتم فصل هذا اللواء وسلخه تمامًا عن الهوية السورية، ليسهل لاحقا ضمه إلى تركيا، وهو ما كان فعلا، وخلال سيطرة فرنسا على الإقليم قربت الأتراك كثيرًا في إدارة شؤون هذا اللواء، مقابل إقصاء العرب الذين همشتهم وضايقتهم في وظائفهم ومساكنهم، خاصة مع تبني مصطفى كمال أتاتورك سياسة التتريك والانحياز للقومية التركية على حساب الهوية الإسلامية التي كانت الصفة الغالبة على الأتراك العثمانيين من قبله.


وقد لاقت هذه الخطوة معارضة شديدة لدى السوريين، ولا يزال العروبيون السوريون إلى اليوم يعتبرون إقليم الاسكندرونة إقليما سوريًا عربيًا رغم كل المتغيرات التي لحقت به منذ ما يقارب مئة عام، ولا يزالون ينظرون إلى ذلك اللواء كقطعة قُدّت من جسدهم، وسيستعيدونها يوما ما.

د. ثابت الأحمدي