آخر تحديث :الثلاثاء-06 مايو 2025-01:59ص

اللغة والأعرابي: سجن التجريد المفقود

الثلاثاء - 06 مايو 2025 - الساعة 01:19 ص

حسين الوادعي
بقلم: حسين الوادعي
- ارشيف الكاتب


كلمتكم في منشوري السابق عن فكرة المفكّر محمد عابد الجابري ان اللغة العربية لغة حسّية، وهذا خلا التعبير عن الأفكار المجرّدة شيء صعب. والسبب في هذا، إن أوّل من جمع اللغة من النحويين واللغويين، كانوا يهملوا الكلمات الحضرية ويعتبروها “دخيلة”، وركزوا على كلام البدو. هذ أفقر اللغة العربية اللي كانت بالأصل غنية بكلمات حضرية ومدنية.


ولأن اللغة تأثر على التفكير، صار الواحد يلاقي صعوبة لما يحاول يعبّر عن أشياء مجرّدة زي الزمان، المكان، الوجود، المعرفة، والله….


مع إن الجابري يشوف إن هذا العجز كان موجود من زمان، لكنه لا يعتقد إنه شي ثابت للأبد. هو يؤمن بقدرتنا على تطوير اللغة العربية ونفتح لها مجال تعبر عن أفكار أكثر تجريد وعالمية.


اللي شدني في التعليقات على المنشور، إن أغلب الناس - حتى اللي يرفضوا كلام الجابري - أكدوا عليه من غير ما يحسّوا.


كثير من الردود كانت تربط اللغة بشي ثاني: “لغة القرآن”، أو “لغة أهل الجنة”، أو “لغة قريش”… كأنهم مش قادرين يتخيّلوا اللغة كأداة مستقلة ومجردة، لازم يربطوها بشي مقدس أو تاريخي أو قبلي. وهذا يؤكد كلام الجابري عن إن العقل العربي يواجه صعوبة في التجريد.


ومن هنا يبان جانب ثاني، وهو “اللاتاريخية”. احنا نتعامل مع اللغة العربية كأنها وُلدت كاملة، ما نتخيل إنها شي قابل للتغيير والتطور. الجابري ايضا يشوف اننا لاتاريخيين، الزمن عندنا واحد وممتد.

بل هو يشوف ايضا ان الزمن عندنا مسطح ذو بعدين فقط "ماضي وحاضر" وغياب المستقبل تماما.


وفي ردود بعض الناس اللي حاولوا يثبتوا إننا نفهم الزمان بشكل مجرّد، راحوا يسردوا أسماء الوقت الكثيرة: الغسق، العَتَمة، السُّدفة، الفحمة، الزُلة، الزُلفة، البُهرة، السَّحر، الفجر، الصبح، الصباح، الشروق، البكور، الغدوة، الضحى، الهاجرة، الظهيرة، الرواح، العصر، القصر، الأصيل، العشي…


لكن في الحقيقة، هم كمان أكدوا كلام الجابري، لأن كل هذي الكلمات مربوطة بالحياة في الصحراء، مش ناتجة عن تصور عقلي مجرّد للزمان. هي ألفاظ طلعَت من تجربة الناس اللي كانوا عايشين في بيئة صحراوية حارة، وكانوا يحددوا الوقت بحسب تغيّر الضوء والحرارة.


وفي نقطة ثانية ضروري نوقف عندها وهي الدفاع باستخدام الخرافة.

المدافعين استخدموا خرافتين: الاولى ان الله هو الذي نزل اللغة العربية من السما.. يعني نزلت كامله مكمله وما تحتاج تعديل ولا تطوير. والثانية هي خرافة إن اللغة العربية فيها 12 مليون كلمة! هذا الكلام ما له أي أساس علمي، بس يتداول كنوع من الفخر. ولو صدق صارت اللغة العربية مستحيلة للتعلُّم. العقل البشري ما يقدر يحفظ أو يستخدم كل هذا الكم من الكلمات. و90% من ذي الكلمات أصلاً ما تنفع بشي، لأنها قديمة أو تخص مجالات ضيقة جدًا.


المهم، كل الألفاظ اللي تتعلق بالوقت، موجودة في المعاجم، بس مستحيل كان العربي يعرفها أو يستخدمها كلها. اللي يظن إن العربي القديم كان يفرّق بين الصُّحى والضحى والهجير، جالس يتوهم.

هذه الكلمات تجميع من لهجات قبائل متعددة،، وفكرة إن العربي كان يفرّق بدقة بين الغسق والعتَمة والسُّدفة و.. و.. بشكل يومي، هذي خيالية.


وفي الأخير، لازم نفهم إن إدراك العيوب هو أول خطوة نحو تصحيحها. احنا مش عاجزين بالفطرة، ولا في شي فينا يمنعنا نبدع أو نفكر بشكل مجرد. العجز هذا جاء لأننا ما زلنا نستخدم أدوات تفكير قديمة، تجاوزها الزمن. قدراتنا العقلية ما تختلف عن قدرات أي شعب ثاني أكثر تحضّر مننا، لكن الفرق إننا ما زلنا نحبس عقولنا داخل طريقة التفكير الأعرابي.


المنشور الجاي إن شاء الله بيكون عن كيف شاف الجابري “الأعرابي” اللي – بحسب رؤيته – هو اللي صنع العالم العربي.