آخر تحديث :الخميس-05 ديسمبر 2024-04:42م

من صنعاء إلى فانكوفر.. الحلقة الـ3 (تعليم برائحة بول الحمير)

الأربعاء - 26 يوليه 2023 - الساعة 11:05 م

جمال الغراب
بقلم: جمال الغراب
- ارشيف الكاتب


تعليم برائحة بول الحمير :

السابعة من العمر تقريباً كانت سنة مميزة بالبهجة لخوض مرحلة عهد جديد من الطفولة في الالتحاق بالتعليم.

في الصباح الأول دخلت الفناء الرحب للمدرسة والتي كانت عبارة عن مبنى قديم نسميها "سمسرة " وكانت مقسمة إلى ٣ فصول دراسية صارت الهيبة مضاعفة لتلك اللوحة المرتفعة فوق المبنى والمدون عليها تحت صورة للطير الجمهوري اسم" مدرسة الأنصار".

هناك استقبلني استاذ مصري واسمه يسري حسنين ، صافحني ثم أشار لي بالجلوس بجانب طالب يدعى طاهر محمد علي من قرية الجلبة المجاورة لقريتنا.
أخذت مكاني بجانبه داخل الفصل ومازلت اتذكر جيدا  الحصتين الأولى والثانية، إذ  كانت الأولى مادة قراءة بينما الثانية كانت مادة رياضيات.

وفي الحصة الثالثة تركنا الأستاذ وذهب ليدرس مجموعة أخرى داخل المدرسة نفسها .
ربما كان من حظ مدرسة الأنصار كادر من المعلمين المصريين كثير الشدة، لكن رغم العنف الذي مارسه المعلمين ضدنا، إلا أنهم بذلوا جهدا كبيرا في تعليمنا، حتى أن المعلم الواحد كان يعلم ثلاثة صفوف لقلة وجود المعلمين حينذاك، ولقد كان للتعليم في عهدهم هيبة وللمعلم مكانة كبيرة.

في الفصل الدراسي، شاهدت زميلي طاهر يخرج من جيبه لعبة عبارة عن شاحنة صغيرة ملونة بألوان جذابة، فسال لعابي وفورا قلت له : "اشتي هذا "القلاب"  وانا بعطيك بدلا عنه دفتر جديد .

قال : هذا أغلى.. ( يقصد الشاحنة اللعبة).

ساومته بأن أعطيه كراستين مقابلها. 
طاهر الذي كان يكبرني بحوالي ٤ سنوات حينما تأكد له اني أعجبت بلعبته رفع من سقف القيمة وقال : اقلك القلاب غالي وإذا  تريده جيب لي الدفاتر حقك كلها والشنطة وكان عدد الدفاتر ٤  واحد لمادة العلوم والثاني لمادة الرياضيات والثالث للقراءة بينما الأخير للواجبات المدرسية.

بلا تردد وافقت وسلمت له الحقيبة بكل مافيها من دفاتر وأقلام ومن شدة فرحي بالقلاب نسيت اخذ من داخل الشنطة درزن اقلام ملونة كان قد اهداه لي جدي المرحوم حسن مهدي حيث اشتراه من سوق الخميس وذلك بعد ان أخبرته جدتي اني سجلت في المدرسة.

بعد ان أكمل المعلم الحصة الثالثة غادرنا المدرسة قبيل الظهر، لكني لم أعد إلى البيت، إذ بقيت ألعب بقية اليوم في القلاب حتى وقت المغرب وحينما رأتني امي في باب البيت بدون أدوات المدرسة سألتني: 
أين حقك الشنطة والدفاتر يا صايع؟.
قلت : ضاعين. 
جن جنونها وصرخت في وجهي بصوت مرتفع  تضيع دفاترك من أول يوم يا جني يا ابن الجني ثم اخذت عصا وانهالت على جسدي ضربا .

استمرت امي بالضرب وكانت تسأل اين ضيعت الشنطة يا صايع؟
وانا ابكي وأتذرع: مدري أين ضاعت.
هذا ما زاد من غضبها حتى انها كانت تضربني وتقول : شنطه بكلها "تنطل" عليك  يا صايع؟

وانا ارد : والله انها نطلت.. (أي سقطت وضاعت).
تسأل : أين  ؟
ارد : ما ادري .
صممت على رأيي وتحملت الضرب من اجل لعبة لا تتعدى قيمتها في ذلك الوقت  ٥ ريالات بينما الشنطة والدفاتر تصل قيمتهم  لحدود ٣٠ ريال إضافة إلى درزن أقلام ملونة.

ليلة مليئة بالبكاء قضيتها وفي اليوم التالي ذهبت إلى المدرسة وأنا حزين جدا وفي ذات الوقت كنت اشعر بقهر كبير من أمي، وأكثر ما أوجعني بكاء أمي المرير لأنها ضربتني. 
لأمي قلب طيب صحيح كانت تعاقبني بعد كل مشكلة اقوم بها لكنها تعود وتبكي عليَّ بحرقه.

في المدرسة كانت أول حصة دراسية مادة رياضيات للمعلم يسري  عدت على خير وبلا ضرب .
في الحصة الثانية درسنا قراءة وكان يردد بصوت مرتفع أبي صالح أمي أروى ونحن نردد بعده.

فجأة توقف ونظر لي ثم قال انهض .
نهضت من مكاني وأنا ارتعش فقال : أنا سوف اقراء الجملة وأنت أكملها. 
قال : أبي صالح.
وبصوت مرتفع قلت : امي حسناء. 
قلت باسم أمي وفي بالي ان كل طالب ينادي باسم أمه ،ضحك الطلاب بينما المعلم استشاط غضبا ،أخذ عصا غليظة من على الطاولة وضربني أربع ضربات قوية، ضربتين في يدي اليمنى وضربتان في اليسرى .

أتذكر جيدا لحظتها شعرت بخوف كبير اذ تحولت الفرحة في داخلي إلى غصة ،بل صدمة حتى أصبحت أكره المدرسة للحد الذي  كنت حينما أصحو  صباحا بغرض الذهاب إلى المدرسة، أشعر وكأنني ذاهب إلى الجحيم.

ثمة طلاب كُثر مثلي تعرضوا لضرب مبرح بل وأكثر مني ولكل طالب سبب خاص به.
مشاهد كثيرة عالقة في ذهني لطلاب تعرضوا لضرب عنيف أحد  هؤلاء الطلاب ضربه الأستاذ يسري بأمر من والده لا أدري ماهو السبب .

أتذكر ان والده ظهر في باب السمسرة دار بينه والاستاذ المصري حديث جانبي وبعد أن أكملا حديثمها ناداه الأستاذ بإسمه وطلب منه ان يقترب الى مقدمة الفصل، وتحديدا أمام السبورة وهناك اشبعه الأستاذ ضربا .

خلع حذاءه وجلده حوالي عشر جلدات متتالية بلا توقف، كان  يصرخ بصوت مرتفع وحاول أن يستنجد بوالده الذي كان يقف في بوابة السمسرة متكيا على عصاه دون جدوى .

كنا نشاهده ينضرب وهو يرتعش فضلا عن أن صراخه كان يملئ السمسرة ،وكان يردد الله يا أبااااه غير علي، (اي يطلب النجدة من والده) ولم يتركه الأستاذ إلا بعد أن تبول على ملابسه ذلك ما ترك في نفوسنا صدمة كبيرة ورعب كبير حتى ان بعض الطلاب غرقوا بنوبة بكاء داخل الفصل من شدة الرعب.

والعجيب في الأمر ان كل هذا الضرب والجلد الذي كان يمارسه المعلمين المصريين في حقنا بدعم وتشجيع من أولياء أمور التلاميذ.. لماذا يحصل كل هذا العنف لطفل في بداية مشواره التعليمي ولماذا يشجع أولياء أمور التلاميذ هذا العنف،  تلك أسئلة حائرة  لم أجد لها إجابة إلى اليوم، ربما هو الجهل المركب في أروقة التعليم البدائي للأسف.

عنف غير مبرر دفع الكثير من الطلاب وانا أحدهم أن يقضوا معظم الحصص الدراسية في المرحلة الابتدائية خارج الفصل أتذكر منهم فيصل مصلح من قرية الجلبة وداحش علي مصلح من قرية القدمة ،وعلي راوح من النظاري وخالد قاسم حمادي من قريتنا والكثير من الأسماء الذي لايسعني المجال هنا لذكرها .

كنا  نتختبئ في الجبال والوديان و بين المحاصيل الزراعية والأشجار الكثيفة بعيدا عن أنظار الأهالي وإدارة المدرسة، حيث كنا نهرب من الحصص الدراسية بعد أن تحولت المدرسة إلى وكر للرعب ومغارات للتعذيب،  كنا نحرص على أن لا نذهب بعيدا حتى إذا ما انصرف الطلاب من المدرسة نعود خلسة ونزاحم معهم في الطرقات وكأننا خرجنا معا من المدرسة والتي مبناها  عبارة عن اسطبل قديم يسمى سمسرة وتفتقر  لأدنى مقومات التعليم..

في العطلة كان الأهالي يستخدمون مبنى المدرسة كحضائر للأبقار والحمير بسبب غزارة الأمطار أيام الخريف و إذا ما بدأت السنة الدراسية نعود لندرس في داخلها وكانت رائحة روث الحمير  تفوح في داخل  السمسرة.. هذا فضلا عن انتشار حشرات "الكتن"، والقمل في الفصول.

استمريت في الدراسة على هذا الحال من صف أول إبتدائي حتى صف ثالث ابتدائي ولم أعد أتذكر التاريخ بشكل جيد .

كل ما اتذكره وقد أصبحت في صف رابع بأن الأستاذ نقلنا من السمسرة  الى المدرسة الجديدة والتي شيدها الأهالي على حسابهم الشخصي بجانب السمسرة، ومن شدة فرحنا شعرنا بأننا انتقلنا من جهنم إلى الجنة حيث كانت السمسرة مملؤوة بالغبار والقمل ورائحة بول الحمير .

من جانبها قدمت الدولة دفعه من المقاعد  والطاولات لم تفِ بالغرض، قله قليلة من الطلاب كانوا يجلسون على الكراسي بينما الغالبية يفترشون الأرض.

بالنسبة لللجلوس على الكراسي كان مسألة حظوظ ،ولمن يسبق دخول الصف،وهذا كان يتسبب في اشتباك عنيف بين الطلاب في كل حصة دراسية ما جعلنا نعيش عداوة مستمرة طوال السنة الدراسية كما كنت أنا والزميل فيصل مصلح للأسف.