آخر تحديث :الخميس-05 ديسمبر 2024-01:58م

من بعدان إلى فانكوفر .. الحلقة (2)

الثلاثاء - 25 يوليه 2023 - الساعة 11:24 م

جمال الغراب
بقلم: جمال الغراب
- ارشيف الكاتب


 

لعب الكرة جريمة يعاقب عليها الأبوين :

في حين سنحت لنا الفرصة للعب الكرة كان الغالبية منا يلعب حافي القدمين بدون حذاء، وفي وقت الصيف كنا نلعب بين الأمطار، نحاول نستغل فرصة عزوف الكبار عن الامكنة الصالحة للعب ومن ثم نلعب. 
نتحمل كل هذا العناء من أجل نلبي شغفنا في لعب كرة القدم.

فريق قريتنا كان قوامه حوالي عشرة أطفال وكل طفل منا سمي نفسه  بأسم لاعب من نجوم كرة القدم إبان الثمانينات.

مثلا : محمد عبده اطلق على نفسه بيليه، حسن صالح  زيكو، نجيب قاسم ماردونا، وهكذا والحارس كان عبدالله قاسم سمى نفسه باسم الحارس العراقي الشهير رعد حمودي.

أما أنا فقد أطلقت على نفسي جمال حمدي حبًا بلاعب منتخبنا الوطني الكابتن جمال حمدي وكوني أيضا أحمل نفس الاسم، وفي حين كان يناديني أحدهم باسمي فقط " جمال " كنت ازعل وارفض حتى اذا ناداني بجمال حمدي ارد.

أثناء المباراة كنا نلقي الشتائم واللعنات على بعضنا   في حال هناك خطأ أحدث خللا في المباراة وأضاع فرصة سانحة وإن كنا نعتذر لبعضنا بعد انتهاء المباراة التي سرقناها من التسلط القائم في المنطقة وكأننا نعلن التمرد لنحظى بحقنا في اللعب،  فمثلا اللاعب درهم كان رأس حربة  وأطلق على نفسه قاسم يعقوب وكان يهدرعلى فريقنا فرص كثيرة وبعد كل مرة يضيع فيها الكرة نصرخ في وجهه : الله يلعنك يا قاسم يعقوب، أو مثلا حسن صالح نقول له :  العن أفكارك يا زيكو وهكذا.

زمن جميل رغم قساوة الأوضاع حينها وطفولة بريئة عشناها قبل أن تتلوث عقولنا بأفكار الوعاظ ووكلاء الله في أرضه الذين استبدلوا كل هذا الجمال والبراءة بحلقات ومحاضرات تحريضية أنتجت جيل مملوء بالحقد والغل لاسيما منذ ما بعد العام ٩٠ م اي منذ ما بعد الوحدة اليمنية.

هؤلاء الوعاظ منعوا علينا حتى التجمعات في المساء واعتبروها من المحرمات.
حتى أمهاتنا لم يسلمن من هذا الفكر الضال ،اصدروا الفتاوى وحرموا عليهن اللبس الشعبي القديم وجاءوا بقوانين دينية جديدة حيث فرضوا النقاب والعباية السوداء بعد أن عشن عقود طويلة من الحب والألفة والجمال.

ضحايا كثر، وإصابات بالغة، تعرَّض لها كثير من الأطفال حينها، مازالت آثارها باقية كالوشم حتى اليوم رغم مرور السنين. 
ذات يوم وفي إحدى المنازلات الكروية  في قرية قريبة من قريتنا تسمى "نجد حنطام" ورغم الخوف الذي كان يساورنا من ردود أفعال وجهاء القرية والآلام التي تلازمنا كنا مستمتعين جدا باللعب، فجأة صرخ أحد لاعبي فريقنا بصوت مفزع، عقب سقوطه على الأرض وظل يصرخ بأعلى صوته تجمعنا حوله و جدنا الدماء تنزف من قدمه اليمنى لنكتشف ان مسمارا اخترق باطن قدمه فتحولت متعة اللعب إلى جحيم يكتوي بها الجميع وكأن أعضاء الفريقين مصابون جميعا.

لحظات رعب عشناها حيث عجزنا عن فعل شيء، لا مركز صحي قريب نسعف المصاب، لا أموال لدينا لشراء أدوية والاهم من هذا انعدام وسائل النقل، ناهيكم عن أن المسافة بعيدة من قريتنا ولم يكن أمامنا غير البحث عن شجرة اسمها "صورب" وهي شجرة يستخدمها الكبار في تضميد جراحهم.

والشيء الأكثر إيلاما بالنسبة لنا كان خوف الضحية من ردة فعل والديه فالعقاب الذي ينتظره  شديدا، وهو ما حصل بالفعل حسب توقعاته ، إذ تعرض لضرب مبرح فور وصوله البيت من قبل والدته.
في المساء عاَد والده من عمل خارج القرية وحينما شاهده مصاب وعرف أن سبب الإصابة لعب كرة القدم ، لم يكتفِ بجرحه النازف وما تعرض له من ضرب عنيف من والدته، بل ربطه بحبل وبطحه على الأرض ومن ثم ضربه ضربا عنيفا ونحن نسمع صوت الضرب وصراخ زميلنا ونصرخ معه بصمت .

سأله ابوه وهو في قمة غضبه : ليش انت الوحيد يا طرطور أصبت، ليش ما فلان تروح بخير ثم واصل الضرب؟

تجمعنا قرب منزله لعلمنا المسبق بأنه سوف يضرب فضلا عن أنه سبق وأن قال لنا : الليلة ليلتي، يعني سيضرب.

تسللنا في الظلام لنقعد بحذر تحت نافذة منزلهم نسترق السمع وكنا نسمع صراخه ونبكي لبكائه وألمه جراء الضرب الذي تعرض له بلا رحمة ولكم أن تتخيلوا طفل يضرب بعنف بلا سبب إلا لكونه لعب، وكأن لعب كرة القدم جريمة نكراء أو فعل شنيع يستدعي معاقبة مرتكبيها بعقاب فضيع.

بعض الآباء كانوا يطلقون على أبناءهم الذين يحبون اللعب "طراطير " بمن فيهم انا كانت أمي دائما ما تقول لي : شلوك الجن يا طرطور، وكل هذا لاني كنت أحب الرياضية وأكره رعي الحمير.

والدي كان رجلا وقَورا يعرفه جميع أبناء المنطقة بدماثة أخلاقه وتحليه بوعي كبير حتى انه لم يسبق وان ضربني ولو مرة واحدة في حياتي وتكمن المشكلة أنه قضى معظم سنين عمره مغتربا خارج اليمن وحينما استقر به الحال  باليمن  كان يعمل معظم أيامه في مدن خارج محافظة إب، هذا ما جعلني عرضة للضرب والتوبيخ المستمر من قبل  والدتي إبان مرحلة الطفولة وبداية المشوار الدراسي مثلي مثل أي طفل في القرية عاش سنوات طفولته تحت الضرب.

ملخص بسيط وقصه واحدة  تلخص طفولتنا المعذبة تلك التي عشناها في الريف اليمني في فترة الثمانينات وبداية التسعينات.
يتبع...