تشهد الجغرافيا السياسية والاجتماعية في إيران موجة غير مسبوقة من الحراك الشعبي المستمر الذي تجاوز في جوهره وطبيعته كافة الاحتجاجات السابقة التي عرفتها البلاد خلال العقود الأربعة الماضية حيث لم تعد الدوافع المحركة لهذا الغضب مقتصرة على الأزمات الاقتصادية أو المطالب الفئوية المحددة بل تحولت بشكل متسارع إلى مطالب سياسية جذرية تستهدف هيكلية النظام الحاكم بأكمله
يشير الرصد الميداني الدقيق لتوزع الاحتجاجات إلى شمولية جغرافية وديموغرافية لافتة للنظر حيث انخرطت في هذا الحراك مدن ومحافظات كانت تعد تقليدياً ضمن قواعد الدعم للنظام أو المناطق المحايدة سياسياً وبالتوازي مع ذلك نلاحظ انضمام شرائح اجتماعية متنوعة تشمل الطبقة العاملة والمتقاعدين والمعلمين والطلبة والطبقة الوسطى الحضرية مما يعكس تآكلاً عميقاً في العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع
لقد أفرزت هذه الاحتجاجات تحولاً نوعياً في طبيعة الشعارات المرفوعة التي انتقلت من المطالبة بإصلاحات اقتصادية أو تحسين ظروف المعيشة إلى استهداف مباشر لرأس الهرم السياسي المتمثل في منصب الولي الفقيه والمؤسسات السيادية المرتبطة به وهذا التحول يشير إلى وصول الشارع الإيراني إلى قناعة تامة بانسداد أفق الإصلاح من داخل المنظومة الحالية وانتهاء صلاحية الثنائية التقليدية بين الإصلاحيين والمحافظين التي هيمنت على المشهد السياسي لسنوات طويلة
من المنظور الاقتصادي لعبت معدلات التضخم القياسية وانهيار قيمة العملة الوطنية والفساد الهيكلي دور المحفز الأولي لهذه الاحتجاجات إلا أن استمرار تخصيص الموارد الوطنية لتمويل السياسات الإقليمية الخارجية على حساب التنمية الداخلية قد فاقم من حدة النقمة الشعبية وأدى إلى ربط مباشر في وعي المتظاهرين بين الفقر في الداخل والتدخلات العسكرية في الخارج
تواجه الأجهزة الأمنية للنظام تحدياً استراتيجياً يتمثل في اتساع رقعة الاحتجاجات وتنوع تكتيكاتها من التظاهر الليلي إلى الإضرابات العمالية والعصيان المدني الرمزي وهو ما يؤدي إلى استنزاف قدرات قوات الباسيج والحرس الثوري ويجعل خيار القمع العنيف الشامل مكلفاً سياسياً ودولياً خاصة في ظل الرقابة الدولية وتطور وسائل نقل المعلومات رغم محاولات قطع الإنترنت
إن مشاركة النساء والجيل الجديد (الجيل زد) كعنصر قيادي ومحرك في هذه الاحتجاجات قد أضاف بعداً ثقافياً واجتماعياً عميقاً للأزمة حيث يتم تحدي الرموز الأيديولوجية للنظام مثل الحجاب الإلزامي وهو ما يضرب في الصميم الهوية العقائدية للدولة ويجعل التراجع من قبل السلطة بمثابة هزيمة أيديولوجية بينما الاستمرار في التشدد يؤدي إلى مزيد من العزلة عن المجتمع
في الختام يظهر التحليل الاستراتيجي للمشهد الإيراني الراهن أن الفجوة بين طموحات المجتمع الإيراني التواق للحريات السياسية والرفاه الاقتصادي وبين طبيعة النظام الحاكم قد اتسعت لدرجة يصعب ردمها بالإجراءات الترقيعية أو القمع الأمني المعتاد مما يضع مستقبل الاستقرار السياسي في إيران أمام سيناريوهات مفتوحة تتراوح بين التغيير الجذري أو الدخول في مرحلة طويلة من عدم الاستقرار والصراع الداخلي المستنزف لمقدرات الدولة