في العالم العربي، يكاد يكون الاعتراف بالخطأ عملة نادرة. ليس لأن الأخطاء قليلة، بل لأن الشجاعة أقل. كم من قرار سياسي مغامر قاد إلى انقسام مجتمع، أو سقوط دولة، أو خراب اقتصاد؟ كم من تحالفات عشوائية، وتدخلات مرتبكة، وانقلابات متسرعة، ودعوات "تحرير" انتهت بتقييد الناس بدل تحريرهم؟
ومع ذلك، لم يخرج مسؤول واحد، ولا قائد ثوري واحد، ولا زعيم حزب واحد ليقول ببساطة:
نعم… أخطأنا.
كأن الاعتراف شتيمة، أو خيانة، أو سلاح يُستخدم ضد صاحبه. بينما الحقيقة أن أسوأ الخيانات هي الإصرار على الخطأ، لا الاعتراف به.
الكل أخطأ… لكن لا أحد يريد أن يراها
من خرجوا ضد الأنظمة، منهم من تحرك بصدق، باندفاع، بغضب، بحلم. لكن أغلبهم وقع في فخ السلطة قبل أن يصل إليها: انقسام، تخوين، تبعية، شعارات أكبر من الواقع. وفي اللحظة التي أصبحت فيها المراجعة واجبة، فضل الكثيرون الهروب نحو الأمام، أو تعليق كل شيء على الظروف، أو اللجوء إلى الخيانة، أو لوم المؤامرة.
الجميع يرفع راية الوطن، لكن قليلون رفضوا تحويل الوطن إلى جائزة يتصارعون عليها.
الشعوب هي الخاسر الوحيد دائمًا
حين يخطئ السياسي، يدفع الشعب.
حين يخطئ الثائر، يدفع الشعب.
حين يخطئ النظام، تدفع الدولة كلها.
الشعوب وحدها تواجه الجوع، الحرب، التهجير، فقدان الأمان، انهيار الاقتصاد، وضياع الأمل.
أما من يصنعون القرار، فيستطيعون دائمًا إيجاد كرسي جديد، أو عاصمة جديدة، أو مبرر جديد.
في اليمن مثلاً:
من اعترف أنه أخطأ بحق هذا البلد؟
من اعترف أن الارتهان للخارج، أو احتكار القرار، أو تصفية الخصوم، أو فتح الأبواب لدول تتلاعب بالمشهد، كان خطيئة استراتيجية؟
الجميع يتحدث عن السيادة، والجميع مثقل بالارتهان.
الجميع يرفع شعار الوطن، والجميع يتاجر به.
من لم يعترف بخطئه… سيُكرره
هذه قاعدة بسيطة يفهمها أي إنسان عاقل، لكن يبدو أنها لا تصل إلى الطبقات التي تصنع القرار.
غياب المراجعة يعني إعادة إنتاج نفس الفشل بثوب جديد.
وتغيير الوجوه دون تغيير العقول ليس إصلاحًا، بل إعادة تدوير للأزمة.
الثائر الذي لا يراجع نفسه يتحول إلى نسخة جديدة من النظام الذي ثار عليه، والنظام الذي لا يراجع نفسه يتحول إلى عبء على شعبه قبل أن يتحول إلى ضحية لنفسه.
الحزب الذي لا يراجع خطابه يصبح مجرد كيان يعيش على الماضي ويخاف من المستقبل.
اليوم، لا نريد معارك جديدة، بل عقلًا جديدًا.
إذا كانت هناك رسالة يجب أن تقال للجميع، دون استثناء، فهي:
إن الاعتراف بالخطأ ليس ضعفًا، بل بداية القوة.
والنضال الحقيقي يبدأ حين نمتلك الجرأة على قول: لم نكن على صواب.
والحكم الرشيد يبدأ حين يملك المسؤول شجاعة أن يقول: لن نكرر الخطأ.
لا نريد مزيدًا من الشعارات، ولا مزيدًا من الاصطفافات العمياء، ولا مزيدًا من القداسة الزائفة لأي طرف.
نريد فقط أن نفهم أن الوطن ليس ملعبًا، ولا غنيمة، ولا سُلَّمًا.
الوطن فكرة أكبر من الجميع، ولا يحميه إلا من كان قلبه أوسع من غروره.
هذه ليست رسالة لوم، ولا اتهام… هذه رسالة للكل:
لمن خرج ولمن حكم، لمن ثار ولمن استقر، لمن حمل السلاح ولمن حمل القلم.
رسالة تقول: لن ينهض أي وطن قبل أن ينهض ضمير من فيه.
والضمير لا ينهض قبل أن يتعلم كلمة واحدة فقط: "أخطأنا."