آخر تحديث :الثلاثاء-28 أكتوبر 2025-01:08ص

الاقتصاد اليمني بين تحسّن نقدي شكلي وانكماش فعلي

الثلاثاء - 28 أكتوبر 2025 - الساعة 12:58 ص

أ.د.عبدالوهاب العوج
بقلم: أ.د.عبدالوهاب العوج
- ارشيف الكاتب


يمثل الاجتماع الأخير لمجلس القيادة الرئاسي مع رئيس الحكومة و محافظ البنك المركزي محاولة جادة لمعالجة أزمة اقتصادية متعددة الأبعاد، تأتي في توقيت بالغ الحساسية حيث تتصاعد الضغوط المعيشية على المواطن اليمني، وتتشابك العوامل السياسية والمالية والخدمية في مشهد معقد.


وقد انعقد الاجتماع في ظل ظروف اقتصادية صعبة، حيث تراجع سعر العملة الوطنية بشكل ملحوظ منذ نشوء الحرب، وانخفضت الإيرادات العامة بشكل حاد، وتصاعد الصراع على الموارد بين المراكز الاقتصادية في عدن وحضرموت ومأرب، وتدهورت الخدمات الأساسية وتراكمت متأخرات المرتبات، وهو ما يجعل أي نقاش اقتصادي مرتبطاً عضوياً بتعقيدات المشهد السياسي العام.


محاور الاجتماع الرئيسية جاءت متوازنة بين الاقتصاد والسياسة والخدمات، فالمحور الاقتصادي ركّز على إعادة تفعيل أدوات الدولة المالية، وكبح التضخم واستعادة الثقة في العملة الوطنية، وتنشيط دور البنك المركزي ومراقبة الصرف العام، مع السعي للتفاوض مع السعودية والإمارات لمضاعفة الدعم المالي، بينما تناول المحور السياسي إعادة تنسيق المواقف بين الحكومة ومجلس القيادة وحل خلافات المجلس، ومعالجة الخلافات حول إدارة الموارد بين عدن وحضرموت ومأرب، وتقديم صورة موحدة للمجتمع الدولي والمانحين، والاستجابة للضغوط الدولية لوضع خطة اقتصادية واضحة، أما المحور الخدمي فركّز على معالجة أزمة الكهرباء في عدن وحضرموت وغيرها من المحافظات المحررة، وتحسين خدمات المياه والصرف الصحي، ومعالجة مشكلة متأخرات المرتبات، وتحسين الخدمات التعليمية والصحية، ما يعكس وعياً بأن الأزمة الاقتصادية ليست مالية فقط بل هي معيشية وخدمية في جوهرها.


تواجه الحكومة تحديات هيكلية عميقة أهمها أزمة الإيرادات النفطية والغازية، إذ يشكل توقف تصدير النفط والغاز ضربة قاصمة للاقتصاد الوطني، فقدت الدولة أكثر من 70% من إيراداتها من النقد الأجنبي، وتراجعت القدرة على تمويل الواردات الأساسية، وعجزت الحكومة عن سداد المرتبات والنفقات التشغيلية، مما أدخل المالية العامة في دائرة عجز مزمن، كما تبرز مشكلة تفتت السلطة المالية حيث انقسمت مؤسسات الدولة بين سلطات متعددة، ولم تلتزم الجهات المحلية بتحويل الإيرادات للبنك المركزي، وتحولت المؤسسات إلى جزر مالية منفصلة، وغابت آلية موحدة لتحصيل الموارد العامة، وهذا التفتت المالي ألغى فعلياً مفهوم الموازنة العامة وحوّل الإيرادات إلى موارد مناطقية تدار بمنطق النفوذ لا بمنطق الدولة، مما أفقد الحكومة القدرة على إدارة دورة النقد والسيولة بشكل مركزي.


يعيش الاقتصاد اليمني مفارقة صارخة تتمثل في استقرار شكلي لسعر الريال مقابل الدولار واستمرار ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية، وهو ما يعكس انفصال السياسة النقدية عن الواقع الاقتصادي، حيث يعتمد الاستقرار النقدي على تدخلات اصطناعية كضخ الودائع أو تجميد الطلب عبر القيود، بينما تغيب الإصلاحات المالية الحقيقية، ويتكرر هذا النمط في اقتصادات منقسمة مثل لبنان والسودان حيث أدى تعدد السلطات إلى انهيار الثقة النقدية وانفصال القيمة الاسمية للعملة عن قيمتها الحقيقية في السوق.


في القطاع النقدي، يظهر استقرار سعر الريال عند مستويات 1650 إلى 1750 للدولار الواحد، لكن هذا الاستقرار يعتمد على تدخلات نقدية محدودة لا يمكن استمرارها دون موارد سيادية حقيقية، ومع غياب الإصلاحات المالية الموازية تستمر الأسعار في الارتفاع رغم ثبات سعر الصرف، ما يؤكد أن التحسن النقدي شكلي لا يعكس تعافياً اقتصادياً فعلياً، أما القطاع الإنتاجي فيشهد تدهوراً واسعاً في الخدمات العامة مثل الكهرباء والمياه والتعليم وغيرها، وانكماشاً في سوق العمل وتراجعاً في النشاط الاقتصادي، وتحول النشاط التجاري إلى المضاربة والاستيراد بدلاً من الإنتاج المحلي، ما جعل الاقتصاد اليمني يقترب من نموذج الاقتصاد الريعي المعتمد على الخارج، مع ازدياد الفجوة بين العملة المتداولة والإنتاج الحقيقي.


التشوهات الهيكلية أصبحت واضحة مع تحول الاقتصاد إلى اقتصاد مناطق منفصلة، وتشابه الوضع مع حالات ليبيا والسودان، حيث سيطرت مراكز القوى على تدفق النقد والسلع، وأصبح القرار الاقتصادي مرهوناً بالنفوذ السياسي والعسكري، ما أفقد الحكومة المركزية القدرة على تطبيق سياسة نقدية موحدة، وخلق اقتصاداً متعدد السرعات، تختلف فيه أسعار السلع ومستويات الدخل تبعاً لمناطق السيطرة والنفوذ.


أما سيناريوهات المستقبل فتبدو ثلاثة، أولها استمرار الوضع الراهن بما يعنيه من استقرار شكلي للعملة وتفاقم الأزمة المعيشية وتدهور متزايد في الخدمات وزيادة الاعتماد على المساعدات الخارجية، وثانيها انهيار الوضع الحالي بانخفاض حاد في سعر العملة وانهيار شبه كامل للخدمات وتصاعد الاحتجاجات وتدهور الأمن الغذائي، أما السيناريو الثالث فهو الإصلاح الجذري الذي يتطلب إعادة بناء منظومة الموارد العامة واستعادة تصدير النفط والغاز وتوحيد السلطة المالية تحت إدارة مركزية وإصلاح النظام الضريبي والجبائي، وهو السيناريو الأصعب لكنه الوحيد القادر على إعادة التوازن إلى الاقتصاد الوطني.


وعلى صعيد التوصيات، فإن المدى القصير يستدعي تفعيل آلية تحصيل الإيرادات من المنافذ وتحسين تنسيق السياسة النقدية بين الجهات المختلفة ومعالجة مشكلة المتأخرات في صرف المرتبات وتحسين توزيع المساعدات الدولية، أما على المدى المتوسط فالمطلوب إعادة هيكلة النظام المالي وبناء نظام ضريبي عادل وفعال وتطوير آليات الرقابة على الإنفاق العام وتحسين كفاءة تقديم الخدمات الأساسية، وعلى المدى الطويل ينبغي إعادة بناء مؤسسات الدولة الاقتصادية وتنويع مصادر الدخل القومي وبناء نظام اقتصادي منتج ومستدام وتحقيق التكامل الاقتصادي بين المناطق اليمنية بما يضمن استعادة الوظيفة الاقتصادية الموحدة للدولة.


ويمثل الاجتماع خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنه لا يشكل تحولاً نوعياً ما لم يُترجم إلى إصلاحات ملموسة، فاستقرار سعر الصرف لا يعني بالضرورة تعافي الاقتصاد، بل قد يكون انعكاساً لتدخلات وقتية لا تستند إلى قاعدة إنتاجية، فالمعادلة الاقتصادية في اليمن لن تتغير إلا بعودة الإيرادات السيادية وتوحيد القرار المالي وإعادة الثقة في مؤسسات الدولة، أما دون ذلك فسيظل التحسن النقدي واجهة شكلية لاقتصاد يعاني انكماشاً فعلياً في كل قطاعاته.

أ.د.عبدالوهاب العوج

أكاديمي ومحلل سياسي يمني

جامعة تعز