بدأ مؤخرًا تداول المطالبة بتجريم "العنصرية السلالية" بنصوص دستورية، والإشارة إلى ضرورة وجود تشريعات تجرَّم التمييز العنصري، ورفع البعض شعار "يمن بلا عنصرية"، وركز البعض على تجريم فرع "السلالية السياسية" فقط، وانجر البعض وراء تلك الأطروحات بترديد أن اليمن لن ينهض حتى يتم صياغة ذلك التجريم بمجموعة حروف مترابطة، وجملة من الكلمات المرصوصة، بحيث يتم تَحْبِيرها على بعض الورق الذي سيوضع لاحقًا في الادراج (أو يرمى بمكب النفايات)؛ علمًا أن تلك الأطروحات تُدلل ضمنيًا وكأن الدمار الشامل الذي حدث في العقود الأخيرة (والممتد منذ قرون طويلة) نتج من عدم وجود "تجريم نصي للعنصرية"، وكأنها تشير أيضًا إلى أن "التجريم النصي بالدستور" سيكون العصا السحرية التي سوف تُغير الحال وتُسهم بحل معضلة عاناها اليمانيون لقرون طويلة من شرذمة الدخلاء والغرباء والشظايا المتمثلة بـ الكهنوتية السلالية، وأدواتها التاريخية القذرة!.
تناسى أولئك -بقصد أو دون قصد- أن النصوص التشريعية المجردة لا تحل المشكلة، وأن جميع دساتير وقوانين الدول تجرَّم العنصرية، وان هناك التزامات دولية واتفاقيات أممية لمكافحة العنصرية، وأن اليمن ضمن تلك الدول التي تجرَّم العنصرية بقوانينها التي لا تتعارض مع دستورها، بل أن أحد أهداف ثورتها المجيدة الخالدة نص على إزالة الفوارق والامتيازات الطبقية (أي إزالة العنصرية، لا تجريمها فقط)؛ ولكن النصوص التي لا تجد من يدافع عنها، ويمسك بتلابيب حروفها، ويحمي حبر كلماتها، ويطبق محتواها، ويمارس مضمونها، هي نصوص فارغة عديمة الجدوى، ووجودها كعدمها!. إضافة لذلك، تجاهل أولئك -بقصد أو دون قصد- أن الكهنوتية السلالية وأذيالها تجاوزوا مسألة "جريمة العنصرية" بمراحل متعددة وتعدوها بمسافة الآلاف الأميال، وارتكبوا بحق الشعب اليمني خلال العقود الأخيرة (والقرون الماضية) جرائم جنائية جسيمة متعمدة من قتل وتدمير وتزوير وتحريف وطمس وتجهيل وتجويع ممنهج، فإذا لم يُحاسبوا بشدة على كافة تلك الجرائم الجنائية الجسيمة التي اقترفوها بحق الشعب اليمني، فكيف سيتم محاسبتهم على جزئية "جريمة العنصرية"؟!.
و"العنصرية" كـ كلمة ذات دلالة تعني اعتقاد مجموعة بتفوقها العرقي أو الإثني أو تميزها بالحقوق أو اعتقادها بالفوارق أو تفردها بالمزايا أو كراهية أبناء الأرض لكل وافد وأجنبي (وليس الدخيل الغريب)؛ أما إذا كان من يمارس تلك العنصرية عصابة من الدخلاء والغرباء والشظايا الذين جاءوا مشردين هاربين حفاة عراة، ومارسوا تلك العنصرية ضد أبناء الأرض الذي استضافهم ووفر لهم المأوى والحماية كـ "هجرة"، فإن تلك جريمة الجرائم، والأصح أن يطلق عليها "عنصرية مركبة متعدية"!. وتمثل "العنصرية المركبة المتعدية" ممارسة الدنيء الاستعلاء على من لهم الفضل عليه، وتباهي الحقير بقداسة عرقه أمام من هم أسمى منه، وتفاخر الوضيع بوضاعته تجاه من هم أعز منه، وتغطرس الجبان الذليل واحتمائه وراء قوة وشجاعة من تم تدّجينه، وتكَبَّر الخسيس بخسته إزاء اليد التي امتدت إليه، وتبجَّح اللئيم بـ لؤمه حِيَال من أكرمه، وادعاء الدخيل القادم من خارج إطار الجغرافيا والتاريخ والحضارة بأحقيته في حكم أرض غيره، وزعم الشحَّاذ آكل أموال السحت العفة نحو من أحسن وتصدَّق عليه!.
وممارسة تلك العنصرية (العنصرية المركبة المتعدية) تتم من قبل الكهنوتية السلالية بطرق ممنهجة عبر عصابة شبكية من بقايا الدخلاء والفقهاء، وبغطاء مذهبي، وبنفس طائفي مبطن، وباستخدام أحذيتها وأدواتها التاريخية!. كما أن هنالك أنواع متعددة من العنصرية ابتداءً من العنصرية العرقيَّة، والعنصرية الإثنية، والعنصرية المؤسسية، والعنصرية البنيوية، والعنصرية الثقافية، والعنصرية المذهبية، والعنصرية الطائفية، وهناك عنصرية ظاهرية عابرة على طرف اللسان، وهناك عنصرية مبطنة في ثنايا الصدور، والأخطر تتمثل بالأخيرة (العنصرية المبطنة) كونها مخفية وغير مرئية ومغطاة بـ "التقية"؛ علمًا أن الكهنوتية السلالية تجمع كل أصناف تلك العنصرية وتمارس كافة أنواعها، وصفة "التعّدي" تعني نقل كافة تلك السمات والخصائص والأساليب لأدواتها التاريخية القذرة!.
وفي سياق نظرة المنظومة المترابطة المتكاملة، فأن "التجريم" يقوم على تصنيف فعل معين على أنه جريمة بموجب القانون الذي لا يتعارض مع الدستور، وهنالك طرق عديدة لـ "التجريم"، وجميعها يتطلب وجود سياسات وإجراءات وبرامج وآليات وقائية ومتطلبات مسبقة؛ ولكن لا يوجد هناك تصنيف خاص بتجريم "العرق" أو تجريم "السياسة"!. كما أن متطلبات "التجريم" الأساسية المسبقة تتمثل بوجود مؤسسات وطنية تُنفذ كل تلك القوانين والسياسات والإجراءات، وتلك المؤسسات والبرامج الوطنية المرتبطة بتجريم العنصرية ومكافحتها، تحتاج أن تُدار من قبل كوادر وطنية من غير العنصريين والمجرمين وأدواتها التاريخية القذرة، لا أن تُدار من قبل الكهنوتية السلالية وأحذيتها المعهودة ممن يسموا بـ الفقهاء والقضاة (بمدلولاتها الشعبية "القاوق"، لا الشرعي!)؛ وإلا كيف للعنصري أن يُجرَّم نفسه، وكيف للأدوات التاريخية العكفوية أن تطبق الأحكام على أسيادها، وكيف للمجرم أن يُقيم الحد على ذاته!.
وواقعيًا، عند النظر إلى المؤسسة الدستورية والقضائية والتشريعية وإلى المؤسسات التنفيذية فأن معظمها يخضع لمجسات أخطبوط الكهنوتية السلالية ويقع تحت وطأة أحذيتها التاريخية، والإشكالية أن أصحاب تلك الأطروحات النادرة ركزوا على تجريم ما هو مجرَّمًا بالأساس "العنصرية" أو تجريم الجانب "السياسي" فقط لفئة خبيثة بكافة جوانبها وموبوءة من رأسها إلى أخمص قدميها، وتركوا بقية الجوانب، وتجاهلوا بقية أجزاء الجسم المتعفن والمسرطنة جُل خلاياه، ولم يتم المطالبة بتجريم أنظمة حاضنات أدمان العبودية وخطوط إنتاج فقاسات العكفة المتمثل بمذهب أئمة السلالية، التي تعد بمثابة المصّد الرئيسي والرافعة الأساسية والقواعد الناظمة المنفذة لأجندة الكهنوتية السلالية؛ علمًا أن الكهنوتية السلالية دون أحذيتها وأدواتها التاريخية، لا تمثل شيء يُذكر، وليست رقم يُعتد به، أو قوة يخاف منها، ويمكن شطبها ببقية ممحاة قلم رصاص متهالك أو بفَضْلَة خرقة مرمية!.
ومن منظور منطقي بتسلسل تتابعي، فإن الحل الواقعي للمعضلة الممتدة لقرون طويلة يتمثل بوجود "عقيدة قومية يمنية" متينة وصحيحة، تستعيد الهوية وتعزز الانتماء وتقتلع كافة الأعشاب الدخيلة الخبيثة الضارة، وتُغرس في المؤسسة الدستورية والقضائية والتشريعية والتنفيذية، وتُزرع في فكر كافة أبناء الشعب اليمني، وتُصان من قبل المؤسسة التنفيذية وعلى رأسها المؤسسة العسكرية بشقيها الأمني والدفاعي. كما أن "العقيدة القومية اليمنية" تحتاج ان يتم صياغتها من قبل "حركة وطنية" صادقة مخلصة (غير مخترقة)، وتنشر تلك العقيدة فكريًا وثقافيًا عبر حراكها الثوري الفتي (لا عبر بغال منهكة تابعة ذليلة مخترقة)!. وبالتالي، فإن التراتبية المنطقية الصحيحة لحل معضلة "العنصرية" الممتدة لقرون طويلة، تبدأ بوجود "حراك قومي" يمني خالص (غير مُخترق)، يقوم بصياغة "عقيد قومية يمنية"، ويُمسك بزمام أمور المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية للدولة، ويتم غرسها في أوساط الشعب اليمني وبين منسوبي المؤسسة العسكرية بشقيها وفي كافة سلطات الدولة الثلاث، بحيث يفضي إلى اقتلاع كافة مسببات العنصرية من جذورها!.
ختامًا، كتابة "التجريم النصي" وتضمين المُضمن في القوانين والدستور لن يغير من المعادلة شيئًا، بينما يبدأ التغيير الحقيقي بالتجريم الفعلي والمحاسبة الواقعية لكافة الجرائم الجسيمة السابقة والحالية، وبما في تلك جزئية العنصرية!. ثم أن صياغة التجريم الحقيقي للعنصرية لن يمطر من السماء، والدفاع عن تلك النصوص وتطبيقها في الواقع لن ينبت من الأرض، بل يحتاج إلى نواة صلبة متمثلة بحركة وطنية فتية متماسكة -غير مخترقة- من أحفاد المكاربة والتبابعة والأقيال والأذواء، ممن يجيدون طريقة التعامل مع الكهنوتية، ويدركون مختلف ألاعيب السلالية، ويعرفون كليًا كيفية سحب البساط وإخراج السموم من ثنايا أدواتها التاريخية، ويتقنون طرق استرداد الحقوق وصون الكرامة واستعادة الهوية وتعزيز الانتماء، وعلى دراية تامة بمنهجيات إزالة العنصرية الممتدة لقرون طويلة من جذورها (لا تجريمها فقط)، شريطة أن تكون تلك النواة بعيدة كليًا عن أدبيات ما يسمى بـ "التكتل الثالث"!.