الدولة المدنية التي نحلم بها لا تُبنى بالإقصاء، ولا تنهض بالإهانة.
في أوروبا، لم تُقم الدولة بإلغاء القبائل أو احتقار الريف… بل باحتوائه، واحترام خصوصياته، وإدماجه في مشروع وطني أوسع.
خاطبوا الناس بلغتهم، احترموا هوياتهم، وشاركوهم في صناعة المواطنة والعدالة.
أما نحن، فكلما استعدى دعاة "المدنية" القبيلة كهوية،
تحولت القبيلة — بحكم الفطرة والانتماء — إلى معول يهدم مشروع الدولة، بدل أن يُستثمر طاقتها في بنائه.
لكن قبل أن تُحمّلوا القبيلة وزر كل أزمة، اسألوا أنفسكم:
من الذي حرم أبناء القبيلة من التعليم لعقود طويلة؟
من الذي جرم الأعمال الحرة، وزرع ثقافة العيب تجاه الحِرَف والمهن؟
من الذي أراد للقبيلة أن تبقى مجرّد خزان بشري للتحشيد، كلما احتاج الحاكم إلى جنود؟
لم يختلف في ذلك الإماميون ولا الجمهوريون… كلاهما أراد القبيلة وسيلة، لا شريكة.
القبيلة اليمنية لم ترفض الدولة ولا القانون، لكنها رفضت أن تكون ذليلة أو مهمّشة.
لم تعارض المدنية، لكنها رفضت أن تُقصى من مشروعها، أو يُنظر إليها باستعلاء.
القبيلة، مثل غيرها، تسعى لمصالحها وتطمح للأمن والعدل، وهذا حق طبيعي.
تجاهل القبيلة، أو التعامل معها بازدراء، خطأ استراتيجي لا يرتكبه إلا من لم يفهم طبيعة المجتمع، ولا استوعب دروس التاريخ.
ولا تنسوا أن الحزب الاشتراكي — رغم ما أنجزه — فشل في احتواء القبيلة الجنوبية، فكانت من أسباب تفككه، ثم انفجار الصراع في 1986.
الدولة المدنية لا تعني إلغاء الهويات، بل تنظيم أدوارها تحت مظلة القانون والدستور.
ولا تُبنى بشعارات نخب معزولة في الأبراج، بل بشراكة حقيقية مع كل مكونات الشعب… والقبيلة أولها، لا آخرها.
المدنية لا تُقام بالحقد، بل تُبنى بالعدالة.
ولا تنهض بالتعالي، بل ترتفع بالاحترام المتبادل.
قلنا هذا مرارًا منذ 2011 وما بعدها،
وحذّرنا من الخطاب المتعالي الإقصائي ضد القبيلة،
لكنكم فتحتم الباب لاستخدام القبيلة وأبنائها ضد الدولة،
وتحوّل كثير منهم إلى أدوات لإسقاطها، وحدث ما كنا نحذر منه.
فكفوا عن هذا الخطاب الآن.
إن كنتم صادقين في بناء دولة مدنية عادلة،
فابدؤوا باحترام كل مكونات المجتمع،
وادمجوا القبيلة في مشروع الوطن... لا في مشروع العداء.