في بلدٍ أنهكته الحروب والانقلابات والصراعات الإقليمية والدولية، كنا نأمل أن يظهر على الساحة جيلٌ من الإعلاميين والمثقفين والسياسيين يستفيد من أخطاء الماضي، ويجيد التفريق بين حب الوطن والمصالح الممولةو ينبذ لغة العنف و الكراهيه.
ما نشهده اليوم لا يُبشّر إلا بالمزيد من الخراب والدمار والتشظي، وكلها تذهب لمصلحة مليشيا الحوثي الإرهابية، حينما تحوّل الكثيرون إلى أبواق تروّج للأفكار الهدامة، والسلالية، والمناطقية المقيتة، ويبررون جرائم تلك العصابة تزلفًا وتقربًا منها، على حساب الثوابت الوطنية والمبادئ الأخلاقية.
خلال سنوات الحرب العشر، اختلط الحابل بالنابل وتغيرت المفاهيم والرؤى الوطنية، وحادت عن الطريق السوي الذي يؤدي إلى مصلحة اليمن العليا فوق كل الاعتبارات الأخرى. ولم يكن الخطاب الإعلامي بمنأى عن تلك التغيرات؛ فقد تميّز في معظمه بالتشتت، وغلبت عليه الحزبية والوصاية من الأطراف المتصارعة، ولم يبقَ للولاء الوطني مكان بين كل ذلك الشتات والتشظي.
لم يعد الخوف على مستقبل اليمن نابعًا من حربٍ مزمنة، ولا من انقلابٍ دموي أو فسادٍ سياسيّ فاضحٍ فقط، بل أصبح الخوف الأعمق حين ترى أن الغباء صار عنوانًا للخطاب السياسي والإعلامي القائم، والافتراء أصبح يُسوَّق كوسيلةٍ للاستحواذ فقط، والمزايدة باسم الوطن باتت تجارةً رائجةً بين كتّاب وناشطين لا يرون أبعد من أرنبة أنوفهم.
للأسف، ابتُلي اليمن بمجموعات من الناشطين الإعلاميين وبعض الكُتّاب، ممن يتلوّنون كما الحرباء صباحا بتوجه و المساء يعكسون كل ارائهم. لا مبدأ يردعهم، ولا وطنية تهذبهم. يتقافزون بين المواقف كما يتقافز مرتزقة المصالح، مدفوعين بجهلٍ وقصورٍ أخلاقي وفكري، أو بـ"دفعٍ مسبق" يحدد لهم ما يكتبون وما لا يكتبون، ومن يمدحون ومن يهاجمون.
هؤلاء لا يرون مصلحة اليمن، بل يرَون مصلحة من يمسك بخيط تمويلهم، فيحوّلون قضايا الناس إلى منصات ابتزاز، ويجعلون من الوطن مسرحًا للسفهاء؛ يُمنح فيه صوت الجاهل، ويُقصى فيه العاقل، وتُستبدل فيه المصلحة العامة بالمصالح الشخصية الضيقة.
من يتابع منشورات هؤلاء أو مقالاتهم، يدرك أن أكثرهم لا يحمل مشروعًا وطنيًا، ولا رؤية استراتيجية، ولا حتى حسًا أخلاقيًا يدفعه إلى الاعتذار عندما يُخطئ. مجرد أبواق متأرجحة، يرفعون شعار "الوطن أولاً"، بينما يطعنون خاصرته كل يوم بلا خجل.
لم يتعلّم هؤلاء من نكسة 2011، حين غُرّر بالشباب وغرقت البلاد في دوامة الفوضى، ولم يستوعبوا درس انقلاب الحوثي الذي جرّ اليمن إلى مستنقع الدم، ولا ما بعده من سنوات القهر والجوع والتشرد.
مأساة اليمن ليست في الحوثي وحده، ولا في التحالف وحده، ولا في فشل الحكومة اليمنية وحدها، بل في أبنائها، وفي هذا الخراب الثقافي والإعلامي الذي يصنع من التافهين رموزًا، ويمنح السفهاء منابر، بينما يُحارب كل صوت وطني مخلص لا يُجيد النفاق، ولا ينحني إلا لمصلحة الوطن.
لقد تحوّل الوطن إلى كعكة تتقاسمها نخب سياسية فاشلة، لديهم مجموعة من الكَتَبَة، يديرون الدولة كما يُدار تطبيق على الهاتف المحمول: يُحدّثون ما يريدون، ويحذفون ما لا يناسب روايتهم. أما الشعب، فقد تُرك ليموت جوعًا، أو يُقتل صمتًا.
يكفي هذا الوطن ما فيه من آلام، ويكفي الشعب ما فيه من قهر، فلم يعد يحتمل عبثكم، ولا صراخكم، ولا مسرحياتكم الرديئة.
لقد آن أوان أن نسمّي الأمور بمسمياتها:
من لا يريد لليمن و الشعب الخير، فليصمت.
ومن لا يملك مشروعًا وطنيًا حقيقيًا، فليتنحّ.
ومن باع قلمه و ضميره، فلا يتحدث عن السيادة، ولا عن الكرامة، ولا عن اليمن.
الوطن يحتاج إلى صوت العقل والمنطق، لا صدى الجهل والتبعية.
الوطن يحتاج إلى رجال دولة، لا صبية منابر.
إلى وعي يتجاوز المال وحب السلطة و الظهور، ويعلو على الشعارات، ليصنع وعيًا وطنيًا حقيقيًا يتقدّم فيه الوطن و مصالح الشعب اليمني على كل الاعتبارات الأخرى.
لقد جرفتنا الخطابات الإعلامية المأزومة التي تستدعي الماضي، التي جادت بها مختلف الكيانات منذ أكثر من عقد، إلى مهاوٍ سحيقة من الصعب الخروج منها، إن لم نمتلك الحس الوطني المشترك، والشعور بالمصير المشترك، ومسؤولية كل طرف عن تقديم خطاب وطني جامع، لا أن يعمل كل طرف وفق هوى وإملاءات شخصية فئوية مقيتة.
إن إنقاذ اليمن يبدأ بكلمة صادقة، بموقف شجاع، بخطاب نزيه. قد لا نُغير المشهد فجأة، لكننا قادرون على إعادة صياغة الوعي الوطني الجمعي... وذاك هو أول طريق الخلاص.
فطريق إنقاذ اليمن لن يُعبَّد بالشعارات، ولا بالصراخ في الفراغ، بل بالوعي، بالنزاهة، وبالإيمان العميق بأن الوطن أكبر من الأحزاب والولاءات والجهات.
يبدأ الإنقاذ حين نمتلك الشجاعة لقول الحقيقة، والصدق في الانحياز لليمن فقط، لا لغيره.
علينا أن ننقذ ما تبقى منا ومن وطننا.
فهل من مستجيب؟
أم أن للخراب بقية يُراد لها الاستمرار إلى ما لا نهاية؟