في يوم الثلاثاء، كعادته التي لا تشبه عادات المسؤولين في دول العالم الثالث فقط، اجتمع فخامة رئيس مجلس القيادة الرئاسي مع دولة رئيس الوزراء وبعض من معالي الوزراء في العاصمة المؤقتة عدن، وكالعادة أيضًا، خرج اللقاء مبشّرًا بالخير والرخاء، وبأن الأيام القادمة ستشهد نقلة نوعية لانتشال مناطق الشرعية من مستنقع الانهيار الخدمي والاقتصادي وكأن المعجزة قادمة على أجنحة "الفلاشات" والصور التذكارية.
لكن مهلاً، لم تمضِ 48 ساعة على اللقاء "المهيب" حتى كنت مدعوًا مساء الجمعة إلى جلسة شاي متواضعة في أحد مقاهي مدينة نصر في القاهرة، وما أن جلست حتى باغتني القدر السياسي بمنظر غريب.. الطاولة المجاورة تضم مجموعة من الوزراء اليمنيين "الكرام"، يتضاحكون، يتهامسون، و"يمزمزون" الشاي وكأنهم في إجازة صيفية على شواطئ نيس الفرنسية، لا في خضم أزمة وطن يئن تحت الحصار والفقر والانهيار.
يا للعجب!
تعز بلا ماء.
عدن بلا كهرباء.
مأرب تصرخ من الضغط السكاني والخدمي.
شبوة والمهرة تعانيان من الإهمال.
والاقتصاد اليمني يسقط من على حافة الانهيار إلى هاوية السقوط الكامل... لكن الوزراء؟ في جلسة "وناسة" في المهجر!
وما إن استجمعت دهشتي، حتى سمعت أحدهم يقول بثقة: "فخامة الرئيس بيغادر بعد كام يوم، رايح إجازة".
وكأن اليمن أصبحت سويسرا الشرق، تعيش في واحة من الأمن والاستقرار، والخدمات فيها تفوق بريطانيا، والاقتصاد أنعش من الخليج!
أي وطن هذا الذي يُدار بالترانزيت؟!
رئيس يأتي للسلام والظهور الإعلامي، ثم يغادر قبل أن تبرد عدن، ووزراء يعانون من "حساسية الميدان"، لا يطيقون البقاء أكثر من 72 ساعة في الوطن المنكوب، بينما المواطن هناك يتنقل من طابور ماء إلى طابور غاز، ومن عتمة الكهرباء إلى ظلام السياسة!
إنها مهزلة وطنية بامتياز...
وطن يذوب، وشعب يختنق، وسلطة تعيش في عالم "الروقان".
يبدو أن معيار النجاح الحكومي صار يعتمد على عدد الصور المنشورة في اليوم، وعدد فناجين القهوة التي تم احتساؤها في الخارج.
نعم، اليمن ليست بخير.
لا في عدن، ولا في تعز، ولا في حضرموت، ولا في مأرب.
والمضحك المبكي أن من يُفترض بهم أن يغيّروا هذا الواقع، يتعاملون معه وكأنه "إجازة مفتوحة"، أو رحلة عبور مؤقتة نحو "عاصمة جديدة"... أو ربما وظيفة في منظمة بعد التقاعد السياسي.
أيها السادة في "حكومة الترانزيت"، لا نطلب منكم المعجزات...
فقط ابقوا في البلد قليلاً، اشربوا الشاي بين الناس لا بينهم وبين الكاميرات، واسمعوا أنين المواطنين لا ضحكات بعضكم البعض.
علّ ضمائركم تستيقظ من سباتها.
فالشعب، يا سادة، لا يشرب الشاي على طاولات الفنادق، بل يشرب القهر من أكواب الحياة كل يوم.
وإن كنتَ تظن أن المشهد قد بلغ ذروة العبث، فدعني أخبرك بما هو أغرب: أعضاء مجلس القيادة الرئاسي – أولئك الذين يُفترض أنهم يقودون وطنًا في حالة طوارئ مزمنة – كل واحدٍ منهم قد فتح له "خيمة تهاني" في مدينة أو دولة مختلفة، وكأنهم وكلاء حجّ لا قادة دولة!
فهذا في الرياض يتلقى التهاني والتبريكات وكأن تحرير صنعاء قد تم، وذاك في أبو ظبي يدعو ضيوفه لتناول الحلوى احتفاءً بنجاح "إدارة الأزمات من الخارج"، وثالثهم في القاهرة يطمئن على صحة الحجاج... أما المواطن اليمني الذي يغلي دمه في الداخل، فلا عزاء له، ولا من يطرق بابه ليسأله عن الكهرباء، ولا من يبلّغ عنه مفقودات راتبه، ولا من يواسيه في جنازة وطنه!
وكأن من يديرون الشرعية اليوم – عفوًا، من "يشاهدونها تُدار عن بُعد" – يعيشون في زمن مختلف، وعالم موازٍ. كل منهم رئيس في مملكته الصغيرة، يمارس صلاحياته الإعلامية على جمهوره الخاص، يوزع البيانات ويستقبل المهنيئين، بينما الشعب غارق حتى أذنيه في بؤس الخدمات ومرارة الانقسام، ولم نعد نعلم – صدقًا – من فيهم الرئيس، ومن فيهم المرؤوس، ومن فيهم الموظف المؤقت الذي ينتظر راتبه من تطبيق خارجي!
إنها حكومة على شكل مجموعة واتساب: لا أحد يسمع أحدًا، وكل عضو يكتب ما يريد، يقرر ما يشاء، ويظهر في الوقت الذي يناسبه، بالصورة التي يراها ملائمة لصورته في الغلاف، لا لحجم مأساته الوطنية.
البلد تُنهب، والشعب يُعذّب، والدولة تُدار من الفنادق والخيم والمطارات، بينما يُطلب من المواطن أن يتحلى بالصبر، وأن "يفهم الوضع"، وأن يتفاءل بأن القادم أفضل...
أي قادم هذا؟ القادم الوحيد هو العيد التالي، حيث يهنئون بعضهم البعض مجددًا، والشعب يدفن عامًا آخر من عمره تحت تراب الإهمال.
أليس منكم رجلٌ يعقل؟
أليس منكم مسؤولٌ يستحي؟
أليس منكم من يجرؤ أن يكون قائدًا بحق، لا صورةً على شاشة، أو توقيعًا في بيان، أو قهقهةً في مقهى؟
اليمن لا تُدار عن بعد.
ولا تُبنى بخيام التهاني.
ولا تنهض بوزراء في إجازة دائمة.
ولا تحيا برئيسٍ يمرّ عليها كما يمرّ الطيران فوق الأجواء: ترانزيت فقط.
حان وقت الرحيل... أو الرجوع إلى الأرض، فالشعب لم يعد يحتمل مزيدًا من النكات السياسية الثقيلة.
كفى عبثًا؟.