حين يُختطف الضوء من اليد التي يُفترض أن تمتد للمساعدة، وتتحوّل مفردات "التمكين" و"الدعم" إلى أدوات للتمييز والإقصاء، تخرج حكايات كهذه لتفضح ما يُمارَس باسم "الإنسانية"، وما يُخفى تحت عباءة "العمل المدني". لا نتحدث هنا عن خطأ إداري، ولا عن خلل في التمويل، بل عن انهيار أخلاقي مكتمل، تتورط فيه منظمات تُرفع شعاراتها في المؤتمرات، بينما تُدفن مبادئها في الواقع.
هذا ليس حديثًا عاطفيًا، بل خلاصة لتجربة اصطدمت بجدار الزيف الذي تبنيه بعض المنظمات على أنقاض الحاجة. لقد خُلق العمل المدني ليكون مساحة أمل، لكنه تحوّل، في يد البعض، إلى سوق نخاسة جديد. مبادئ العدالة والمساواة، أصبحت مادة للتسويق، لا للتمثيل. أما المرأة – المستهدفة نظريًا بالحماية – فقد أصبحت، في واقع بعض المكاتب، مادة للاستغلال، وورقة ضغط، ووسيلة تمويل.
حين تُقرأ رسائل إلكترونية تُصاغ بنبرة فوقية، حين يُشترط الولاء مقابل المساعدة، حين تُمنح الوظائف لا بالكفاءة بل بالقرابة والتبعية، فنحن لا نعيش في "مؤسسة مجتمع مدني"، بل في نسخة ناعمة من القهر. تلك الإيميلات، تلك الأسئلة التي لم يكن غرضها معرفة الاحتياج بل اختبار الانكسار، لم تكن أخطاء فردية، بل كانت تمظهرًا لمنظومة أوسع ترى في الفقير عبئًا لا مستحقًا، وفي المرأة وسيلة لا إنسانًا.
في الظاهر، هناك تدريبات وشعارات ومشاريع. أما في العمق، فهناك غرف مغلقة تُدار فيها الحياة بمقاييس طبقية، ونظرات استعلا ء، تُمارس فيها المحاباة، وتُقصى فيها الأصوات الحرة. الجريمة هنا ليست فقط في الفعل، بل في التواطؤ. في ادّعاء الطهارة بينما تُنتَزع الكرامة. في الحديث عن "تمكين النساء" بينما يُفصّل التمكين على مقاس النخبة، ويُقصى منه كل من رفضت الخضوع.
وما يزيد الألم، أن هذه الممارسات لا تُرتكب تحت ظل دولة قمعية، بل تحت اسم "الحرية" و"الديمقراطية". إنها الجريمة المغلّفة بالابتسامة، والخذلان المقنّع بلغة الدعم.
لكن الأكثر قسوة من الجوع، هو خيانة الأمل. أن تطرق باب منظمة ظننتها ملجأً، فتجد فيها نفس منطق الإقصاء الذي فررت منه. أن يُعامل الألم كأداة مساومة، لا كقضية للعدالة. أن تُطلب منك الولاءات قبل أن تُمنحك الحقوق. عندها، لا يكون الفساد مجرد سرقة مال، بل سرقة كرامة.
ومع هذا، لا يدعو هذا المقال إلى اليأس، بل إلى الصحوة. لأن الصمت على هذه الانحرافات هو خيانة للقضية ذاتها. آن الأوان لأن نعيد تعريف العمل المدني، لا كامتياز لمن يحتكر التمويل، بل كمسؤولية أخلاقية لمن يعيش في الميدان، لمن يرى الإنسان لا "المستفيد"، ولمن يجرؤ على فضح القبح مهما تخفّى بثوب جميل.
إنهم لم يسرقوا المال فقط، بل أرادوا أن يصادروا الصوت. ولكننا هنا لنكتب. لنشهد. لنرفض أن تتحوّل المنظمات إلى أدوات قمع ناعمة، ولنطالب بأن تعود القيم إلى أماكنها. ففي النهاية، لا نريد مجتمعًا مدنيًا يُطعم الجائع وهو يُهينه، بل مجتمعًا يُنقذ دون شروط، يُمكّن دون مقايضات، ويمنح دون أن يُذلّ.