آخر تحديث :الإثنين-12 مايو 2025-11:39ص

بلاد يحترق فيها الدم: يوميات مريض في وطن عليل:

الأحد - 11 مايو 2025 - الساعة 09:14 م

القاضي عبدالوهاب قطران
بقلم: القاضي عبدالوهاب قطران
- ارشيف الكاتب


منذ ما يقارب الشهر والنصف، عادت إليَّ الحساسية الجلدية المفرطة، تلك التي تنهش الجلد وتسرق النوم. تظاهرت بالتماسك، وراوغت نفسي، مؤملاً بتعافٍ ذاتي يجنّبني أعباء الأطباء والتحاليل والأدوية. امتنعت عن ارتداء أي ثياب غير قطنية، خشية أن تهيج بشرتي أكثر. قطعت عن طعامي كل ما ارتبت في كونه سببًا؛ البيض، الدجاج، الموز، الألبان، الجبن وكل مشتقاته، وسلكت حمية قاسية، أواجه بها الجوع بوجبة غداء يتيمة.


لكن دون جدوى.


اشتريت شريط مضاد الهستامين “هستات” ومرهمًا موضعيًا من إحدى الصيدليات، استخدمتهما لأيام، بلا أي تحسن يُذكر. استشرت صديقي الصيدلي، فنصحني بفحص دم شامل، وقال: “ربما الدم عندك مرتفع، اسحب قربة دم، أو اعمل حجامة. قلت له نحن في نيسان، اذا طلع عندي زيادة بنسبة الدم سااحجم ،واعمل بحكمة القدماء: إذا دخل نيسان بالسلامة، عليك بالحمّام والحجامة، ولا تقاربها ولو كانت حمامة!”.


ذهبت إلى المختبر، أجريت فحص CBC، فكانت النتائج طبيعية. لا دم زائد، لا حاجة للسحب، ولا للحجامة. ثم قررت أن أجرب حمامًا معدنيًا يُقال إنه “كَبريتي” في بلاد الروس؛ لعل فيه شفاء. ذهبت قبل اسبوع وتعكعفت وعثاء السفر تحت حرارة الشمس الحارقة بهذا الجو القائض المجدب ،ولكنه لم يكن إلا وقودًا جديدًا للوجع، فازدادت الحساسية بعده، واتسع الجرح أكثر.


عندها، أدركت أن لا مفرّ من زيارة طبيب جلدية.


فاتحت صديقي الطبيب، فنصحني بطبيب في مركز الزهراوي، بحي الصافية، وأضاف: "زحمة عنده شديدة، ولكن إن أردت، أحجز لك عند طبيب ممتاز في عيادته الخاصة، وعلى حسابي، لا تحمل همًا". فقلت له: "بل أريد الزهراوي، لا ضير في الزحام، أنا ابن هذا الشعب وأحب أن أشاركه معاناته، ولو في ممرات الانتظار".


في مساء اليوم التالي، قبل امس اتصل بي صديقي قائلاً: "تم الحجز، وبكر الصباح، وهذا رقم سيتواصل مع الممرضة لإدخالك مباشرة".


شكرته، لكنني رفضت الوساطة. قلت له: "عيب! نحن دعاة مساواة، نرفض المحسوبية حتى لو كانت لصالحنا على باب طبيب. سأبكر، أقطع ورقة المعاينة، وأنتظر دوري، ولو طال الانتظار عشرين ساعة".


وفي صباح الأمس، انطلقت إلى مركز الزهراوي. لفت نظري شارع المركز: نابض بالحياة، يعج بالباعة الجائلين والمفترشين للأرصفة، مكبرات الصوت تصدح بالتحريج بالخضار والفواكه، بورة طاحنة و كساد يضرب الأسواق. خمسة كيلو مانجو من نوع "قلب الثور" بألف ريال، وخمسة كيلو موز كذلك. الخضار رخيصة، بخمسة آلاف ريال تملأ لك خمس شنط.

تألمت على الفلاحين الغلابى ببلادنا الذي اعرف معناتهم حق المعناة وتعاستهم وقسوة الحياة عليهم ومايعانوه من شظف العيش ،فلماذا يتعبوا ويكدوا ويزرعوا ويحصدوا ويختلط عرقهم بتربة ارضنا الطيبة ثم تباع منتجاتهم بهذه الاسعار الرخيصة الزهيدة جدا مقارنة بأسعار السلع والمعلبات المستوردة ..


لااحد يشعر بالفلاحين الغلابى بهذا البلد..


بجانب المركز، وفي ساحاته ومداخله، انتشرت خيام لبيع الملابس النسائية والسلع المنزلية الرخيصة. أما الداخل، فكان صدمة أخرى: ازدحام مهول، أغلبه من النساء اليمنيات. كأن اليمنيات كلهن مريضات!


تكدس المرضى في الطوابير . الممرات أشبه بمتاهة بشرية... نساءٌ يفترشن الأرض، يتشبثن بأوراق المعاينة كأمل أخير. نظراتهن – الشاحبة المتعبة – تروي قصصًا من الألم والصبر، بينما الزحام يصرخ بغياب الحلول."


سألت الممرضة عن عدد الحالات قبلي، فقالت: “كثير، يمكن دورك بعد الظهر. اقطع ورقة من الدور الأول”. فعلت، دفعت 200 ريال، وصعدت مجددًا. ناولتها الورقة وجلست... أو بالأحرى افتَرشت الأرض، فالكرسي الخشبي الوحيد كان محتلًا بأربع نساء يحملن أطفالًا.


كنت واحدًا من بين ثلاثة رجال فقط، وسط نساء كثيرات. كنا كالغرباء، نقاطًا باهتة وسط بحر أنثوي يئن من الوجع.


انتظرت حتى بعد الظهر، وخلال الانتظار، تجاذبت أطراف الحديث مع الرجلين الجالسين. أحدهما كان شيخًا طاعنا بالسن اخبرني انه من حزم العدين، إب. قلت له: "كأن شعبنا كله مريض! ذهبت للهند قبل خمس سنوات لعلاج والدي، وكنت أزور مستشفياتها الكبرى، نادرًا ما رأيت هنديًا مريضًا، رغم أن تعدادهم أكثر من مليار، وغالبية المرضى يمنيون وعرب!". فقال الرجل: "رجعت من السعودية مطلع الثمانينات، وكنت أعاني من قرحة في المعدة، ذهبت إلى الجمهوري بصنعاء، لم أجد سوى ثلاثة مرضى. اليوم المستشفيات تغص بالمرضى، الشعب كله مريض. السبب؟ المبيدات المسرطنة، والأغذية الفاسدة".


ثم نادت الممرضة باسمي، فدخلت على الطبيب.


كان رجلًا نحيل الجسد، دمث الأخلاق، متوقد الذكاء، يخدم الغلابى بصدق وتفانٍ. بدى من لكنته انه من الحجرية من تعز ،تجاذبنا اطراف الحديث اخبرني انه خريج رومانيا وانه من قدس الحجرية ،فقلت له اعز اصدقائي الاوفياء من الحجرية وتعز ،ثم سألني عن تاريخي المرضي، وعن الأغذية، وعن حالتي النفسية. قلت له إن الحكة تزداد حين أكون متوترًا. قال لي: “لازم تعمل تحاليل دم، والوقت تأخر اليوم. بكر الصباح، وسوها هنا”.


وفي صباح اليوم ، بكرت مركز الزهراوي ،ودفعت رسوم التحاليل،كانت الرسوم مرتفعه استنكرت وقلت للمحاسبة اليس هذا مركز حكومي ويفترض ان الرسوم رمزية ما الفرق بينكم وبين المستشفيات الخاصة التى تتاجر بالطب ،قلت خارج بضعف هنا !


وسحبوا عينة. انتظرت النتيجة لساعتين، ثم عدت إلى الطبيب.


تفحص النتائج وقال: "عندك ارتفاع عالي جدًا في نسبة التحسس في الدم، يمكن بيحرق دمك!". ابتسمت وقلت له: "ومن عاده مرتاح البال في هذه البلاد؟! قدك شايف الوضع والناس، والله يعينك لخدمتهم". شكرته، وقلت له إن الناس يثنون عليه وعلى كفاءته.


كتب لي إبرة، وعدة علاجات ودهانات. ذهبت إلى الصيدلية، لكنها لم تكن متوفرة بعد. ننتظر أن تصل.

وماله ننتظر فاليمن لاتعرف سوى لغة الانتظار.


وعلى الله الركون، ويارب ماللهم غيرك دافع...