آخر تحديث :الأحد-13 أكتوبر 2024-02:30ص

حزب الأحرار .. 8 ــ 30

الإثنين - 16 سبتمبر 2024 - الساعة 01:49 ص

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


‏لافتات سبتمبرية

تتناسلُ الأحداثُ والوقائعُ من سابقاتها كما يتناسل البشر من بعضهم بعضًا، في سلسلة تبتدئ ولا تنتهي، فكل حدثٍ آتٍ مما قبله، وممهّدٌ لما بعده، وإن تبدى أنه منقطع عنه، أو نقيض له، لأن النقائض في حقيقتها الوجه الآخر لما يُفهم أنه نقيض. فالخصوم يشبهون بعضهم بعضا، والأعداء كانوا كومة واحدة قبل أن ينشطروا. وهكذا تسير حركة التاريخ وأحداث الحياة في تفاعل بين النقائض التي تفضي إلى ثالث؛ إمّا مشابه يحملُ صبغة النقيض، أو نقيض يحمل سمات التشابه.

كان حزبُ الأحرارِ بعدن امتدادًا لما قبله من محطات النضالِ في القرن العشرين، التي ابتدأت همساتٍ خجولة، فدعواتٍ عالية، ثم صيحات صارخة في وجه النظام الإمامي، والذي لا يصح أن نسميَه نظامًا إلا تجوزًا فقط؛ إذ لا علاقة له بالنظام، ولا بالحكم، عدا الحكم الطغياني الغشوم؛ خاصة وقد تفرد الطاغية يحيى حميد الدين وأبناؤه بالحكم، متجاوزين بعض الأسر التي كانت تشاركهم الحكم، وكانت بعضها لا تقل طغيانية عنها، بحكم الفكرة التي يرتكز عليها الجميع، فكلهم في الطغيان شرق، والفرقُ بينهم كالفرق بين حماري العبادي الذي سُئل: أي حماريك شر؟ فقال: هذا، ثم هذا. وأشار إلى الاثنين معًا..!

في العام 1943م غادرَ نعمان والزبيري تعز نحو عدن، فرارًا بجلديهما. وقد تمكن اليأسُ من قلبيهما، ألا أمل يُرتجى من السيف أحمد الذي كان يتظاهر أمامهما ورفاقهما الأحرار بالإصلاح والتغيير؛ بل كان يتظاهرُ بانتقاد نظامِ والده أحيانا، فيما هو ــ في الواقع ــ نسخة أخرى منه في الطغيان والهمجية، وقريبا منه في الانغلاق. ومن شابَه أباه فما ظلم. والأمر لا يعدو ما قاله الشاعر:
هذي العصَا من تلكم العُصيّة
فهل تلدُ الحيّةُ إلا حية

والحقيقة لم تكن تلك الغضبة "الأحمدية" إلا الإعلان الأخير للانفصال النهائي بين الأحرار، والحكم الإمامي الغاشم، عدا ما كان من أمر النعمان من المصالحة بعد خروجه من سجن نافع، والتي لم تدم كثيرًا، وعاد سيرته الأولى مع رفاقه حتى تكلل نضالهم بثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م.
يقول الزبيري عن تجربته المُرّة هذه مع السيف أحمد: "كنا نرى في هذا الرجل بطلا، في وقت كنا نحن وشعبنا في أشد العجز عن خلق الأبطال وصنع البطولات. كان وليُّ العهد أحمد رمزَ الأمل ومناط الرجاء في القضاء على أسباب الفساد المعروف عن حاشية الإمام يحيى، وكان رجالُ هذه الحاشية يرتعدون من المستقبل كلما تذكروا "أحمد". وصل نعمان فالزبيري إلى عدن، وكانت شهرتهما تسبقها من قبل، وأحدث خروجهما إلى عدن ضجة كبيرة، سواء لدى ولي العهد أحمد، أو لدى أبناء الشطر الشمالي في عدن. وبهذه المناسبة نظم الزبيري قصيدته المعروفة:
خرجنا من السجن شُمّ الأنوف
كما تخرجُ الأسْدُ من غابها
وفي خروجهما قال الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان:
صقران عافا الذلَّ إذ فطنا لما
بهما يُراد من الهوانِ فطارا
طيرًا إلى خلف البسيطة حيث
لا تجدان "قاهرة" ولا "ممطارا"
والقاهرة وممطار من حصون تعز الإمامية يومها.

في عدن التقيا إخوانَهم المشردين هناك من الشطر الشمالي، وهم في أبأسِ حال، والذين كانوا يعملون في مهنٍ وضيعة، أغلبُها في خدمةِ الأوروبيين المقيمين بعدن حينها، وبعضُهم عاطلٌ لا يجد عملا يسد به رمقه. ومع بداية استقرارهما بعدن لحقهما زيد الموشكي، وأحمد محمد الشامي، أو "دُبر أمر وصول الموشكي والشامي" حسبما يرى محمد أحمد نعمان "الابن" واللذَين ساهما في تأسيس حزب الأحرار اليمني هناك، في يونيو 1944م، بعد أن تواصلوا مع المهاجرين اليمنيين في شرق افريقيا وفي مصر الذين باركوا هذا العمل. وتم إشهار التأسيس باحتفائية خاصة في نادي الإصلاح العربي، ونشروا الخبر في جريدة "فتاة الجزيرة" التي كان يرأسها محمد علي لقمان، وفي الحفل ألقى الزبيري واحدة من أشهر قصائده الثورية، نظمها بالمناسبة، وهي:
سجل مكانك في التاريخ يا قلم
فها هنا تُبعث الأجيال والأمم

ودعا المؤسسون الحاضرين لدعم الحزب ماديا، والاشتراك فيه، فانهالت التبرعات عليهم، من الحاضرين، ومن المهاجرين في بلاد الحبشة، وغيرهم، رجالا ونساء، بل لقد تبرع أحد المواطنين "عبده إسماعيل جاوي" بمنزله ليكون مقرا للحزب، مجانا بلا مقابل. كما تطوع الحاج عبدالله عثمان الذبحاني بسيارته الأجرة التي يعمل عليها، وينفق من دخلها على أسرته، وجعلها تحت تصرف الأستاذين نعمان والزبيري أثناء تنقلاتهما، وفقا لرواية علي محمد عبده.

وكان أنصارُ الحزب والمشتركون فيه والمساهمون في تمويله يتكونون من عُمّالٍ ومداكنة مغتربين ومقيمين في عدن، وجميعهم محدودو الدخل ورأس المال أيضا.
و انتُخبَ الأستاذ أحمد نعمان رئيسًا للحزب، وزيد الموشكي نائبًا، والزبيري مديرًا، وأحمد الشامي سكرتيرًا عاما، والحاج عبدالله عثمان أمينًا للصندوق.

وبدأ الحزب يمارسُ نشاطه، وكان أولُ ذلك النشاط رسالة مطولة إلى الإمام يحيى، مذيلة بأربعة أسماء: أحمد محمد الشامي، أحمد محمد نعمان، محمد محمود الزبيري، زيد الموشكي. داعين فيها إلى الإصلاح وتجاوز حالة الجمود والانغلاق، والالتفات لأحوال الناس الذين يقعون تحت طائلة الحاشية والجند.

وواضح من مضمونِ الرسالة التي تضمنها كتاب علي محمد عبده فإنّ قيادةَ حزبِ الأحرارِ اليمني لم تكن قد أعلنت خروجها النهائي على الإمام، أو عدم الاعتراف بشرعيته، وخاطبته بالحُسنى واللين في القول، داعية إياه إلى إصلاح النظام فقط. أي أنّ المعارضة حتى هذا الوقت كانت سياسية لا ثورية؛ لأنّ المعارضة السياسية تعترفُ بشرعيةِ الحكم القائم، وتعارض فساده، فيما المعارضة الثورية لا تعترف به، وتسعى لإسقاطه. وقد ردّ عليهم الإمام يحيى بما مضمونه أنّ أغلبَ ما ورد في رسالتهم إليه غير صحيح.

ورفعوا إليه مذكرات أخرى، فلم يرد عليها، كما فعل مع الأولى، بل لقد أخذته العزةُ بالإثم، هو ونجله أحمد باعتقال المشتبه من الأحرار في صنعاء وتعز، كما تم اعتقال بعض أقارب الأحرار اللاجئين في عدن، منهم أحد عشر معتقلا من أقارب الأستاذ نعمان. فاعتقل الإمام يحيى بصنعاء كلا من: القاضي عبدالسلام صبرة، والشيخ جازم الحروي، والقاضي إسماعيل الأكوع، والقاضي يحيى السياغي، وأخويه: حمود السياغي ومحمد السياغي، وقد رُبطوا بسلاسل حديدية من يدي سجين وعنقه إلى يدي وعنق سجين آخر، وسيقوا على حالتهم تلك من صنعاء إلى سجن تعز، مصحوبين بمعاملة قاسية. وفي إب ضُمت إليهم جماعة أخرى من المحسوبين على جمعية الإصلاح التي انكشف سرها في نفس الفترة، وكان منهم: القاضي عبدالرحمن الإرياني والشيخ حسن الدعيس وآخرون. ذكرها القاضي مفصلة في مذكراته.
وفي هذا المشهد الأليم، خاطب الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان رفاقه هؤلاء قائلا:
سيروا فما الأغلالُ في أعناقكم
إلا لمجدكم العظيم شعارا

في هذه الفترة كان حزبُ الأحرار يواصلُ نشاطه بعدن، بوتيرة متسارعة، وبصورةٍ ملحوظة، وقد انضمت إليه شخصياتٌ جديدة من المثقفين والمشايخ، ومن عامة الناس، كما وجد الدعم المالي من المغتربين، فتخوف ولي العهد أحمد من هذا النشاط، وظل يبعث بالرسائل إلى نعمان والزبيري، يستميلهم بالرجوع إليه، كما ذكر نعمان، فردوا عليه: حين تتغير الأوضاع، ويكون لليمن دستور ومجلس شورى، وحينما توجد حكومة مسؤولة سنعود.

أصبح حزبُ الأحرارِ ملءَ سمع اليمن وبصرها، شمالا وجنوبًا، وصارت له أدبياتُه السّياسيّة وبرامجه الثقافية، وعلى رأسه نعمان "خطيب اليمن" والزبيري، "شاعر اليمن"، وهما اللقبان اللذان خلعهما عليهما ولي العهد أحمد بتعز. وكانا مؤثّرَين بقوة بين رفاقهما، لصدقهما ونزاهتهما ولسحر بيان كل منهما. فالزبيري شاعرٌ، يكادُ يحرك الصّخرَ الأصمّ بشعره، موهوبٌ بالفطرة، ونعمان خطيبٌ مُفوّه وصاحبُ لغة وبيان، صنعتها مدارس زبيد وصقلتها الأزهر. وكان الاثنان في قمة النشاط، وفي ذروة العطاء الشبابي؛ لاسيما بعد عودتهما من مصر التي فتحت آفاقهما أكثر. وبمقابل ذلك فإنّ الإمامَ يحيى في عقده الثامن كهلا، فيما وليُّ عهدِه وأفرادُ حاشيته يبطشون بالناس وينكلون، فاكتملت المعادلة من جانبيها.

يقول الزبيري عن نفسه: كنتُ أحسُّ إحساسًا أسطوريًا بأني قادرٌ بالأدب وحده على أن أقوض ألف عام من الفساد والظلم والطغيان. لستُ أدري أذلك من تخريف الخيال الشاعري الجامح؟ أم هو ومضة من ومضات الذخر الصوفي السجين في أعماقي؟
بعد فترة تم توقيف نشاط الأحرار بعدن، ضمن صفقات الساسة، بعيدا عن مصالح الأمة والشعب؛ لكن همة هؤلاء الأحرار لم تتوقف، وعزيمتهم لم تلنْ، ولم تمثل لهم فترة التوقيف هذه إلا استراحة محارب قصيرة، انتقلوا بعدها إلى طريق جديد من طريق اليقين الثوري، ضمن محطةٍ من محطاتِ النضال الطويل، كما سنرى في الحلقات القادمة.
د. ثابت الأحمدي