آخر تحديث :الجمعة-13 سبتمبر 2024-06:00م

ماذا يبق من المدن إذا تعصب سكانها لقراهم ؟

الإثنين - 12 أغسطس 2024 - الساعة 12:17 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


في المجتمعات التقليدية الانقسامية من المهم جدا إن تتكون كتلة تاريخية خارج الهويات الدائرية والمرجعيات الضيقة( عشائر، قبائل، قرى، مناطق، شلل، طوائف..الخ) كتلة وطنية عابرة لكل هذه الدوائر المرجعية يكون لدى أفرادها الذكاء الكافي لفهم المعنى والهدف الوطني العمومي وتكمن مهمتها في نقد الاخطاء القاتلة التي يرتكبها ابناء مجتمعاتها المحلية في ممارسة الشأن العام وتنويرها بمعنى العيش المشترك في مجتمع متمدن وترشيد سلوكها الريفي القروي بما يتناسب مع قيم وعادات المدينة ونظامها العمومي. إما إذ لم يقم المتعلمين الفاهمين من القرى والأرياف بهذه الدور التنويري النقدي بل تجدهم بالعكس يمارسوا التعصب القبلي والمناطقي فمن المؤكد إن الحروب سوف تستمر إلى ماشاءالله.

من المعيب إن تجد أكاديميا يعيش في مدينة يتعصب لأبناء قريته ومنطقته بعنجهية لا تنم عن ادنى قيم الثقافة المدنية. من يحمي المدنية لو تعصب سكانها للقرى والقبائل ؟!

فالمدينة ونظامها المتناسق هي روح المجتمع الحديث وقد ارتبطت مدن الدول الحديثة بنظام مؤسسي مترابط الشبكات والحلقات يشبه نظام المرور وشبكة الطرقات في المدن المزدحمة بالناس والعربات إذا لم يشتغل بدقة وسلاسة وانتظام على مدار ساعات الليل والنهار تختنق المدينة ويتعثر السير والمرور وتعم الفوضى ويتزايد الازدحام ويصاب الميدان العام بالشلل التام. وكما يستحيل السير في المدن بدون نظام مرور جيد كذلك يستحيل العيش في مجتمع بدون نظام مؤسسات دولة فعال ينطبق على جميع المواطنين بقدر متساوي وكما أن نظام المرور هو سيد جميع العربات المتحركة وغير المتحركة فكذلك يجب أن يكون قانون مؤسسات الدولة سيدا لجميع المواطنين القاطنين في المجتمع المتعين بغض النظر عن مواقفهم واتجاهاتهم ومعتقداتهم ومذاهبهم وطوائفهم. وهذا هو ما يميز طوكيو أكبر مدينة مزدحمة بالسكان في العالم والقاهرة أكبر مدينة عربية أفريقية.

رغم أنني منحدر من أصول ريفية ولا ذنبي لي في ذلك ابدا لكنني أشعر بأنني منتمي للقيم المدنية أكثر من بعض ابناء المدينة ذاتهم. المدينة مكان وفضاء عمومي للعيش والعمل والإقامة والمدنية قيم وأخلاق ورموز لا يفهما الا من أحبها وربما كان لتخصصي في الفلسفة دورا في استيعاب منى التمدن والمدنية. ليس بمقدور المجتمع المدني أن يولد وينمو ويزدهر بدون وجود قوة تحميه أو تبيح له فرصة الوجود الفاعل والديمومة المزدهرة. فما يجعل من مجتمع ما مجتمعاً (( مدنياً)) هو أنه الموضع الذي ينظم فيه الناس أنفسهم بحرية في جماعات وروابط أصغر أو أكبر في مستويات متنوعة بغية الضغط على الهيئات الرسمية لسلطة الدولة من أجل تبني سياسات منسجمة مع مصالحها"_ يقصد تلك الجماعات المدنية ويبين رتشارد سينيت في كتابه المهم( سقوط الإنسان العام ) الفروق الدقيقة بين المجال العمومي ومجال الحياة العامة (المجتمع المدني) والمجال الشخصي , فالمجتمع المدني هو مجتمع الغرباء, إذ أن المجتمع الحميمي ( أي مجتمع الأقارب) يجعل الحياة المدنية أمراً مستحيلاً. فالناس لا يستطيعون تطوير علاقاتهم مع الآخرين إذا عدوها غير مهمة لكونها علاقات لا شخصية. والمجتمع الحميم على عكس تأكيدات أصحابه , هو مجتمع فظ؛ لان الحياة المدنية ( هي النشاط الذي يحمي الناس من بعضهم بعضاً, ويتيح لهم مع ذلك أن يتمتعوا برفقة الآخر) فالعيش مع الناس لا يستلزم ( معرفتهم) ولا يستلزم التأكد من أنهم ( يعرفونك) ... والحياة المدنية تنوجد عندما لا يجعل المرء من نفسه عبأ على الآخرين" وبالخلاصة يمكن لنا التأكيد على أن المجتمع المدني بوصفه مجالاً للحياة العامة المستقلة عن مجالات الحياة الأخرى، مجال السياسية ومجال القرابة ومجال الاقتصاد، ومجال الدين لا يمكن له أن ينمو ويزدهر ألا في ظل وجود دولة المؤسسات المنظمة بالدستور والقانون.