آخر تحديث :الثلاثاء-21 مايو 2024-11:06م

برقاوي الجدير بالقراءة والمتابعة

الأربعاء - 01 مايو 2024 - الساعة 12:52 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


فيما يشبه التهنئة بعيد ميلاده الرابع والسبعين

أن الفلسفة عنده هي حكمة العقل ودهشة الانفعال هي المعنية دائما بتحطيم الأوثان؛ اوثان العقل ذات وذلك بنقدها وبيان تارخانيتها وهذا هو معناها بوصفها قدرة الأنا الواعية على وعي ذاتها إي العقل الذي يعقل ذاته. قدرة الفكر على المزاوجة بين ملاحظة سلوكاته الذاتية ووعي ذلك السلوك اثناء الانهماك في تأمل الموضوعات الخارجية” السلوكات الذاتية للعقل هي عاداته وأعرافه أي، بكلمة، آليات اشتغاله. لكن لمعرفة هذه السلوكات لا بد من الإحاطة علما بصيرورة تطورها ، وهو ما دفع إلى نشوء الجينيالوجيا (علم نسابة الفكر البشري) وحدها الفلسفة هي من ستنطق الكلمات والمفاهيم والمصطلحات والافكار من أين جاءت؟ وكيف ولدت وازهرت في سياقاتها الاجتماعية والتاريخية؟ ولا يمكن فهم العقل بدون فهم اللغة إذ لا تفكير الا بالكلمات والصور الذهنية حتى في الأحلام. ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة وسياق نمو وازدهار وعلاقة قوة وسلطة وحقل دلالة وفضاء تلقي وحساسية ثقافة وابتسمية خطاب.
بهذه الوعي الانعكاسي الحاذق تتعين تجربة البرقاوي الفلسفية بوصفها إنتاجًا فكريا اصيلا لم يكرر فيه احد قبله ابدا
إذ كتب " المطّلع على كتبي يتبيّن هذه المفاهيم التي لم تألفها الفلسفة العربية المعاصرة قط. لقد قمتُ، فضلًا عن ذلك، بقتل الآباء. كان لديّ آباء كثيرون: هيغل، ماركس، برغسون، هايدغر، سارتر… لقد تركت آبائي ورائي وقتلتهم بالمعنى الفرويديّ. لا يستطيع الفيلسوف أن يكون أبًا إلا إذا قتل آباءه"
مرت تجربته الفلسفية الزاخرة بالعطاء والإبداع بمرحلتين:
مرحلة نقد الفلسفة:  وهي المرحلة الأولى وتمتد من السبعينات وحتى بداية التسعينات ،لقد شهدت هذه الفترة كتابة رسالتي لنيل الماجستير : الجوهر بين ديكارت واسبينوزا ، ورسالتي لنيل الدكتوراه   التقدم والتاريخ وحتى كتاب “دفاعًا عن الأمة والتاريخ”. مروراً بكتاب محاولة في قراءة عصر النهضة،وكتاب العرب بين الأيديولوجيا والتاريخ وكتاب أسرى الوهم.
تميزت هذه التجربة بهموم الواقع العربي ومستقبل العرب . وهي مرحلة مهجوسة بمشكلات العرب التي كان يجرى الحوار والنقاش حولها: النهضة، التقدم، العلمانية، القومية، الدولة القومية، الحداثة، التحديث، الثقافة، الأصولية، الحاضر، المستقبل، الحرية، الغرب، الإستشراق، المثقف، التاريخ، فلسطين. إن  كتبه  في هذه المرحلة ، فضلًا عن عشرات المقالات المتعلقة بهذه المفاهيم، المشكلات،كانت مؤسسة على فض المفاهيم السائدة،فضلاً عن نقد الفكر العربي برموزه المعروفة آنذاك.

🌹لمن اراد معرفة من هو الفيلسوف العربي الجدير بالقراءة والمتابعة اليكم التالي:

أحمد برقاوي من نقد الفلسفة إلى فلسفة النقد
تمهيد
الكتابة عن الفيلسوف النقدي أحمد نسيم برقاوي ليست كمثل الكتابة عن أي مفكر آخر، بل هي أشبه بمغامرة محفوفة المخاطر؛ خطر الجهل بالمعنى وخطر سوء الفهم للأفكار وخطر التبسيط للأبعاد والغايات الكبرى. الذي لا يعرف البرقاوي يظنه فيلسوفًا متعجرفًا ومفكرًا نخبويًّا أرستقراطيًّا. لكنه في حقيقة أمره إنسان مرهف الحس الإنساني، حنون عطوفً محبً للحياة والناس شديد الاعتزاز بذاتية الحرة، صارم حد القسوة مع الغباء والجهل والنفاق والتزلف، لا يطيق الأغبياء والأدعياء الذين يبيعون الزيت والزيتون وليس لديهم لا زيت ولا زيتون! فمَن هو أحمد نسيم برقاوي؟.
ولد أحمد نسيم برقاوي من أبوين فلسطينيين، في بلدة الهامة السورية لأسرة فلسطينة نزحت من مدينة طولكرم الفلسطينية بتاريخ 29 أبريل 1950وهناك في فحيا الشام ترعرع في كنف عائلة متعلمة إذ كانت أمه معلمة لغة عربية ومديرة مدرسة ومنها رضع الطفل الموعود شغفه الدائم بالعلم والمعرفة إذ كان دائم التساؤل والفضول والاندهاش بإزاء الأشياء التي يجهلها كان تلميذا متقد الذهن والذكاء العاطفي فصار ما هو عليه اليوم مفكرا عربيا نقديا أصيلا من العيار النادر في الفكر العربي المعاصر إذ لا شي عند البرقاوي بمنأى عن التفكير النقدي. كان النقد عنده منهج فكر وأسلوب حياة؛ نقد التاريخ والأيدولوجيا ونقد الحياة والفكر ونقد الأوهام والأحلام ونقد الذات والآخر ونقد الأدب والفن ونقد الفلسفة والمناهج ونقد السياسات ومدراتها. كان نيتشويا قبل أن يتعرف على نيتشه ذاته، إنه عاصفة فلسفية نقدية شاملة تجتاح كل أنماط وأساليب ومناهج الكتابة التقليدية والجديدة، فهو فكر متعدد الأبعاد وقلم متنوع الأساليب وتجربة فلسفية ثقافية أصيلة، ومنهجية أكاديمية متسعة الإرجاء وعميقة الدلالات. يمارس التفكير والكتابة بصوت عال منذ أن تفتحت مداركه الواعية على العالم. فكر وكتب وعبر بمختلف أنماط وأساليب التعبير: خاطرة، مقالة وبحث ودراسة وكتاب وقصيدة وقصة ومحاورة وعمود صحفي فأنتج عشرات الكتب المنشورة ومئات المقالات والكتابات الإبداعية في المجلات والصحف والمواقع الالكترونية العربية والعالمية نذكر منها: محاولة في قراءة عصر النهضة 1986 والعرب بين الأيديولوجية والتاريخ 1995 م. دمشق دار الأهالي والعرب والعلمانية 1996 دمشق معد للنشر وأسرى الوهم 1996 دمشق دار الأهالي ودفاعاً عن الأمة والمستقبل 1999 دمشق دار الأهالي. والعرب وعودة الفلسفة 2000 دمشق. دار طلاس وطلاسم أبو ماضي 2004 بيروت الذاكرة دار. الأنا 2005 دمشق دار التكوين. وكوميديا الوجود الإنساني 2009 دمشق دار التكوين والمسألة الثقافية في الوطن العربي والعالم الإسلامي في المشاركة مع رضوان السيد دار المعرفة 2006.و في الفكر العربي الحديث و المعاصر،الدار البيضاء ،بيروت ،2015. وأنطولوجيا الذات. الدار البيضاء-بيروت المركز الثقافي العربي 2015. وفي مجال الشعر والأدب صدرت له عدد من الدورين منها: "أنا" ديوان 2009 دمشق دار التكوين. لعبة الحياة" ديوان 2010 دمشق دار التكوين. شذرات اللقيط ، دار كتاب ، دبي ،2018 وغيرها من النصوص والكتابات المنشورة وغير المنشورة. حينما يكتب يثير أمواج عاتية من ردود الأفعال والتساؤلات، ومهما اختلف النقاد في النظر أليه فهو في رأي الجميع، نص مدهش يأسر القارئ بفيض خصيب من الإشراقات المبهجة، إنه النص الذي يُدخل القارئ في رحاب وفضاءات مستعرة بالدهشة والفرح والجمال، إنه النص الذي ينحدر من بحر زاخر بالثقافة العالية، فمنذ الوهلة الأولى تشعر بتلك الروح الجامحة والعقل الوقاد الذي يفيض بسيل منهمر من الرؤى والأفكار الجديرة بالقيمة والأهمية والاعتبار. لا مثيل لتنوع البرقاوي في الإبداع الفكري والكتابي, أذ كتب في التاريخ والحضارة والفلسفة والأدب والفن والعلم والسياسة والتعليم والمرأة والطفل والمجتمع ومختلف مجالات الحياة. من أي النوافذ يمكننا الإطلال على هذا المفكر العربي المتزايد الاتساع؟  ومن أي الأبواب ينفتح المشهد عن هذه الواحة الثقافية البرقاوية الخصيبة؟ وحينما اطلعت على سيرته الذاتية الحافلة بالإنجاز والعطاء العلمي في مختلف مجالات الفكر والأدب والفن والتاريخ والثقافة والسياسة والمجتمع المدني. تداعت إلى ذهني نظرية أفلاطون في الملك الفيلسوف. إذ وجدت أن مسار حياته منذ مولده في بلدة الهامة السورية بتاريخ 29 أبريل 1950م ونمط تنشئته الطيبة في أسرة كريمة وحبه للقراءة وعشقه للفلسفة دراسة وتدريسا وقد قارب السبعين عامًا من عمره، يعد نموذجا ممثلا للملك الفيلسوف الذي صوره أفلاطون في جمهوريته المتخيلة.
البرقاوي وتجليات الأمكنة
     يبدأ الفكر الإبداعي لا من اللحم  والدم ولا من العقل والوجدان، بل من المكان، والزمان من الفضاءات الحميمة التي تحتضن الكائن؛ المنزل، الشارع، الحي، البلدة، المدينة، الأرض، السماء، المناخ الليالي الأيام، النجوم الغيوم، المطر، الشمس، القمر، الشجر، البحر، الموج ، النهر، الجداول الرمال، الجبال، الوديان، الحيوان، الأنوار، الظلال، الأشكال والألوان، الغناء، الرقص، النحت، الرسم، الأزياء، الألعاب، العصافير، الأعشاش، الأفراح، الأتراح، الألأم والآمال والأحلام... إلخ. وكل تلك الأشياء الصغيرة الحميمة المؤطرة في السياق الحي الفوري المباشر لكينونة الكائن التي يعيشها متدفقة لحظة بلحظة من حياته. تلك الأشياء الصغيرة بتفاصيلها الحميمة التي تظل عصية عن النسيان هي التي يستلهمها الإنسان، المفكر، الفنان، ويعيد صيغتها إبداعياً (فكرة، أغنية أو قصيدة أو قصة أو رواية أو لوحة تشكيلة فنية جميلة أو سيرة ذاتية أو رؤية فلسفية.الخ) إنها أغنية الأرض المنتزعة من أرضها رمزياً بما تحمله من رسالة جمالية ذات دلالات ومعاني سيكولوجية وميتافيزيقية واجتماعية ثقافية وجمالية إنسانية سامية تهذب الأذواق والنفوس، والفيلسوف لا يأتي بالمعجزات؛ بل هو ابن بيئته وربيب زمانه. وتمنحه موهبته المرهفة القدرة على إعادة صياغة الحياة في قالب فكري ثقافي إبداعي يسُر النظر، ويطرب السمع، ويبعث الشعور بالمتعة والفرح والجمال. وللأمكنة مع البرقاوي أبن فلسطين السليبة حكاية وحكايات لا يتسع المجال لذكرها في هذه العجالة، من فلسطين إلى لبنان إلى دمشق وروسيا سانبطربوغ واليمن ومصر وفرنسا وبريطانيا والإمارات العربية المتحدة والفجيرة وبيت الفلسفة في كل تلك الفضاءات المتباعدة المسافات والمتنوعة الدلالات، حلَّق نورس الشام بحثا عن النور والحلم والأمل، وإذا أردنا أن نُقدِّر القيمة الحقيقة التي تنطوي عليها تجربة البرقاوي الثقافية فلا بد لنا من النظر إليه في السياق التاريخي الذي ولد ونشأ وازدهر وفكر في أرضه وفضائه. والسياق هو كامل الوسط الحضاري والثقافي والمدني في الوضعية الاجتماعية المشخصة التي تحيط بالمفكر من كل الاتجاهات. إننا إذ نقف اليوم عميد بيت الفلسفة العربية ، فإننا نقف أمام حقبة فاصلة في تاريخنا العربي الراهن.كتب البرقاوي قائلا: "حين يجعل البشر من تاريخهم موضع تساؤل فإنهم غالبا ما يتساءلون عن مصيرهم ، أو عن حاضرهم كمصير، ومهما كانت الإجابات متنوعة في صحتها أو خطئها، فإن وعيا تاريخيا يتشكل يحمل في طياته مستوي وعي البشر العام بكل جوانب حياتهم" من هنا تغدو أهمية العودة إلى لحظه يقظة الوعي النقدي المستنير للمفكر الذي جعل من النقد الخلاق منهجا للحياة والممارسة وهي بذلك المعنى ليست استعادة حلم استيقظنا على زواله بل عودة إلى تاريخ قريب شكل مرحلة انتقالنا إلى واقعه الحداثة بكل أشكالها المادية والمعنوية ومابعد الكولونيالية والتبعية الثقافية الفكرية والأخلاقية وما تثيره من ردود أفعال متباينة وتأويلات متعددة. والبرقاوي في حياته وسلوكه ومنهجه وفكره وأحلامه إنما كان يؤرخ على طريقته لتغير داهم طرأ في الأفق الروحي للعرب المعاصريين ، ألا وهو ولادة طرق جديدة في التفكير والتعبير والانفعال تتخذ من واقعة الحداثة في الغرب إحداثية أساسية لها. وكما يقول فتحي المسكيني: " أصبحت الحداثة فجأة برنامجا سريًّا لكل عقول المبدعين العرب في هذه الحقبة... وإنه ضمن أفق الانتظار هذا عمل أجيال من المفكرين العرب منذ فرح أنطون إلى محمد عابد الجابري وحسن حنفي ، وذلك عسى أن يفلحوا يومًا في تحويل ذلك الأفق من الانتظار إلى فضاء تجربة فلسفية أصيلة" ( ينظر، فتحي المسكيني، دهشة العرب من الحداثة، مجلة دراسات فلسفية، بيت الحكمة البغدادي، 2002)
    ورُبَّما كان أهم ما يميز البرقاوي في استشكال اللحظة التاريخية المعاصرة هو الموقف النقدي المنهجي العقلاني منها، إذ أن كل ما كتبه منذ قراءات في عصر النهضة وأسرى الوهم والعرب بين الأيدي ولوجا والتاريخ وعودة العرب للفلسفة إلى بؤس التراثيين يسير في هذا  الاتجاه النقدي الرصين " كيف نفهم بروز ظاهرة العودة إلى التراث عامة والتراث الفلسفي خاصة؟ ولو تركنا جانباً الأسباب التي قدمها التراثيون، وقد تكون أسباباً حقيقية بالنسبة إلى كل واحد منهم، لواجهتنا الواقعة التالية: إن معظم الكتب الأساسية التي ظهرت حول التراث، قد صدرت في فترة السبعينات والثمانينات
    "مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط” عام 1971 “من التراث إلى الثورة” عام 1978 طيب تيزيني، “والتراث والثورة” غالي شكري 1973 “نحن والتراث” قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي 1980 “تكوين العقل العربي” 1984 “بنية العقل العربي” 1986 محمد عابد الجابري، “التراث والتجديد” 1981 حسن حنفي، “نظرة جديدة إلى التراث” 1979 “التراث في ضوء العقل”1980 محمد عمارة، “النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية” جزء 1-2/1979 حسين مروة
صاحب صدور هذه الكتب، دراسات ونقاشات واختلاف آراء، أي لم تخلق هذه الكتب شهرة لأصحابها فحسب بل وخلقت مناخاً فكرياً بدا أنه يتميز بالحيوية
      وقد رأينا أن النماذج من المسوغات التي عرضنا لها جميعها منُصبَّة إمَّا على تنوير الواقع أو دفعه إلى الأمام أو المساهمة في التقدم إلخ
      يُقال: يجب أن نصل الماضي بالحاضر؟ من أين جاءت هذه الضرورة؟ إنه لقول زائف بالإطلاق
      وأهميته البرقاوي تكمن في كونه يمثل تجربة فلسفية نقدية أصيله ومتفردة نشأت وتبلورت في خضم الحياة اليومية المعيشة وفي سياق المجابهة الحية بين الفكر والواقع في علاقة حميمة مع العالم المعاصر وعقلية مستنيرة منفتحة على التاريخ والتراث والمعاصرة. وعلى الرغم من أنَّه تخصص بالفلسفة إلَّا أنَّه مثقف متعدد الاهتمامات، فالفلسفة لم تكن لدية مجرد معرفه نظرية بل هي اختيار فعل تنوير وتغيير يمارسه المثقف في سبيل تنوير مجتمعه وتنميته والنهوض به والارتقاء بتاريخه مجتمعه مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون ، إنه مثقف عاش تجربته الثقافية لحظة بلحظة ونبعت أسئلته من موقف شخصي ملتزم ووعي عميق بالذات وبالآخر. وضد أولئك المثقفين الذين فضلوا العيش في أبراجهم العاجية، نجد في نصوصه نزوعا متقدا ورغبة جامحة في اقتحام دروب فكرية عسيرة ومناوشة مشكلات فكريه كبيرة ، إذ كان مسكوناً بهاجس البحث في الأسئلة التي تستوجب الطرح والنقاش وعن المسكوت عنه بما يستجيب لمقتضيات الواقع العربي والعالمي الراهن. لذا جاءت تجربته الفكرية الثقافية مفعمة بالحياة ، إذ هي نابعة من قلب مثقف قلق، حنكته الصعاب وأنضجته التجارب، وصقلته الممارسة وهذبته العلوم والفنون الآداب. وحينما نقرأ تعريف المثقف العضوي كما وصفه الأمريكي سي رايت ميلز بذلك الشخص الذي يقاوم ويتصدى لتمثيليات السلطات كلها والطعن فيها وفي شرعيتها والتشكيك فيما يسمى (بالروايات الرسمية) ومداومة نزع الأقنعة وتحطيم الأشكال النمطية للرؤية والفكر المهيمنة وتقديم صورة بديلة يحاول المثقف فيها أن يكون صادقـا ما وسعه الصدق مع نفسه ومع غيره ومع حقائق الأشياء. وكما هو معروف أن واجب المثقف أو المفكر الحقيقي هو الانحياز إلى صفوف الضعفاء الذين لا يمثلهم أحد في علاقات القوة والسلطة، والضعفاء هنا سواء أكانوا أفرادا أو جماعات أو ثقافات أو شعوبـا ودولا صغيرة مضطهدة، فما بالك لو كانت محتلة ومهزومة ومدمرة. بهذا تكون صورة المثقف كما يلح ميلر "ليس داعية مسالمة ولا داعية اتفاق في الآراء، بل شخص يخاطر بكيانه كله باتخاذ موقفه الحساس وهو موقف الإصرار على رفض "الصيغ السهلة" والأقوال الجاهزة المبتذلة، أو الإكليشات العامة الأيديولوجية أو الأفكار الشائعة وأنصاف الحقائق، بل على المثقف أن يمثل ويلتزم التعبير عن معاناة الأفراد والجماعات من أبناء شعبه والشعوب الأخرى، بصدق وأمانة وتجرد". حينما نقرأ ذلك يحضر الناقد الكبير أحمد برقاوي بكل صخبه الإشعاعي. كتب في تعريفه ذاته ما يلي: (( نطرح فلسفة تدافع عن وجود الأنا ضد جميع أدوات قمعها تاريخيا. ضد جميع الأنظمة المتعالية على الأنا، مثل الأنظمة السياسية والدينية والقيمة التي تمنع ظهور الأنا الحقيقية. لكل هذه الأسباب نرى أن الحرية يمكن أن تسود إذا أزيلت الفجوة بين الأنا الظاهر والأنا الخفي. ليس للأنا أي تأثير في العالم إذا لم يتحول إلى الذات لأن الذات هي انتقال "الأنا" من المجرد إلى المتعين)) من هذا التعريف المختصر البالغ الدلالة والمعنى يمكننا الإطلال على فيلسوف الأنا العربي الباذخ العطاء والإنتاج الفكري والأدبي في مختلف مجالات المعرفة والفكر والثقافة. وبذلك يقف على الطرف النقيض من الأكاديميين المدرسيين التقليدين الذين يجبرون طلابهم اتباعهم واحتذاء نصوصهم حذو النعل بالنعل! إذ أن الجامعة عند البرقاوي ليست مصلحة موظفين بل يعدها مقوماً أساسياً من مقومات الدول العصرية، وركيزة من ركائز تطور المجتمعات البشرية وتحقيق تقدمها العلمي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فضلاً عن كونها بيوتاً للخبرة ومعقلاً للفكر والإبداع، ومركزاً لانتقال الإنتاج والمعرفة وتطبيقها وبؤرة للتحديث والتجديد والتنوير والتغيير، وهي أهم وأخطر مؤسسة حديثة واستراتيجية في تاريخ الحضارة الإنسانية، وذلك لإسهامها الحاسم في نهضة وازدهار مشروع الحداثة العلمية العقلانية في عموم الكرة الأرضية، وأهمية الجامعة لا تعود إلى قيمة وظائفها الأساسية الثلاث: المتمثلة في نقل المعرفة خلال وظيفة التدريس، أو في إنتاج وتطوير المعرفة وظيفة البحث العلمي أو في استخدام وتطبيق المعرفة وظيفة خدمة وتنمية المجتمع فحسب، بل وإلى كونها تعد المثل الأعلى لمؤسسات المجتمع المدني الحديث والإدارة البيروقراطية الرشيدة، وذلك بما تمتلكه من بنية تشريعية دقيقة التنظيم وإدارة فنية أكاديمية كفؤة وعالية الجودة وقيم ومعايير، وهيئة أكاديمية علمية قانونية وثقافية وأخلاقية وجمالية وحضارية وإنسانية وعقلانية شاملة، ذلك لأن التشكيل الأكاديمي هو تشكيل غايته الكمال الأكمل، والتام والكلي المطلق المجرد، المثال الأمثل..وتأبى الأكاديمية النزول بالتشكيل عن أرقى تصميم، فهي نزوع دائم نحو الأكثر حكمة والأكثر عدلاً والأكثر جمالاً والأكثر نفعاً والأكثر صدقاً والأكثر أمانة والأكثر رقياً مهما كلف الأمر، والأمر من أعلى ما تكون الهمم ومن أرقى ما تكون معالي الأمور.
      لقد عمل أستاذا للفلسفة في جامعة دمشق ونائب رئيس الاتحاد الفلسفي العربي ورئيس مركز المستقبل العربي ورئيس قسم الفلسفة في جامعة دمشق وأستاذ الفلسفة والفكر العربي الحديث في الدراسات العليا ورئيس قسم الفلسفة في الموسوعة العربية وعضو في جمعية الفلسفة العربية وعضو في الجمعية المصرية للفلسفة وعضو في الهيئة الاستشارية لمجلة الفكر العربي الحديث بيروت وعضو مؤسس في شبكة التسامح وها هو اليوم عميد لبيت الفلسفة في الفجيرة بدولة الإمارات العربية المتحدة.
      ومهما اختلف النقاد في النظر إليه فهو في رأي الجميع نص مدهش يأسر القارئ بفيض خصيب من الإشراقات المبهجة، فلا مثيل له في تحفيز الأذهان وتوليد الأفكار الجديدة في العقول القابلة للتخصيب . والكتابة بالنسبة له ليست وظيفة المثقف أو انشغال الأكاديمي، بل هي كما عرَّفها: "الكتابة احتفال بالوجود، وامتلاك للعالم نظرياً، وكشف جمالي. إنها حضور الذات فاعلةً في تشكيل الوعي والحس الجمالي، ونشر المعرفة ، وتأكيد الفكر النقدي، إني أتحدث عن الكتابة في ماهيتها، ولست أتحدث عن الكتابة/ اللغو، التي لا تصمد برهة قليلة أمام تيار الزمن، والخاوية من المعنى والجمال. فالكتاب والمجلة والصحيفة الورقية والصحيفة الالكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي جزء لا يتجزأ من حياة الناس، فمن ذا الذي باستطاعته أن يتصور الحياة بلا فيلسوف وشاعر وروائي ومسرحي وكاتب مقال صحفي إلخ؟، لكن الكاتب لا يسـأل نفسه هذا السؤال، ما جدوى الكتابة؟، لأن الكتابة بالنسبة إليه هَم داخلي، ونداء مستمر، ولا يرى معنى لوجوده خارج القلم. الكاتب يشعر أنه مندوب في مهمة لم يكلفه بها أحد ، ألا وهي جعل العالم المعاش مكتوبا" ( ينظر، إبراهيم اليوسف، الفيلسوف أحمد البرقاوي يفكك مشكل الأنا والذات في مواجهة ثقافة الجماعة، الحوار المتمدن) يعد أحمد نسيم برقاوي واحدًا من أهم الفلاسفة العرب المعاصرين الذين أبدعوا رؤاهم الفكرية المتحررة من إسار التقليد والترديد المدرسي. فهو وإن كان قد درس تاريخ الفلسفة ودرسه ودرس تاريخ المناهج الفلسفية ودرسها وتأثر بالفكر الماركسي والفلسفة الوجودية على نحو خاص في مطلع حياته. وأتذكر أن رسالته بالماجستير كانت عن العلاقة بين الماركسية والوجودية. لكنه اشتق لذاته طريق مختلف عن أي منهما. إذ كان أكثر الأستاذة الذين تعلمنا على أيديهم استيعابًا لتاريخ الفلسفة ومناهجها، ويدهشنا بقدراته النقدية في القبض على المفاهيم الفلسفية المعقدة وفض بنياتها المغلقة باحترافية أكاديمية فلسفية عالية الجودة والرصانة. وكانت استراتيجيته في قراءة النصوص الفلسفية تنطلق من منهج الوعي الانعكاسي المزدوج؛ امتلك النص المراد نقده أولا وتمثل حالة الفيلسوف الذي أنتجه وسياقه بوعي عميق وإحاطة كاملة بالمفهوم وتحولاته وسياقات المعنى.وفي لحظة ثانية يشرع بنقده وتفنيده بمنطق جدلي عقلاني شديد الإقناع والفهم. أخبرني الدكتور أحمد انه ذات يوم تصادف وجود الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا بالقاهرة حينما كان الدكتور أحمد برقاوي يقضي إجازة تفرغه العلمي بجامعتها وجمعتهما ندوة فلسفية تحدث فيها دريدا عن تجربته الفلسفية فحاور ه الدكتور أحمد برقاوي بندية فلسفية عالية الكفاءة والجودة. إنه الكاتب المثقف الذي يعرف عن ماذا يتحدث. إذ كنت قبل أن ألتقيه مأخوذًا بسحر الأيديولوجيا الماركسية في نسختها اللينينة البرجنيفية المتصلبة. وعلى مدى عام كامل من السنة التحضيرية بالماجستير للعام الأكاديمي 1991-1992، كانت محاضرات الدكتور أحمد لحظة عصف ذهني فلسفي سقراطي لم أتعرض لمثلها بحياتي. إذ أكملت السنة التحضيرية وقد تغيير كل شيء في قناعاتي على نحو جذري، فضلا عن إحساسي بمشاعر إيجابية في النظر إلى الكون والحياة والتاريخ والمجتمع والذات. كانت جرعة المعرفة البرقاوية أشبه بقدح زناد الذهن والروح. كانت لحظة معرفية قصيرة لكنها بالقياس إلى كل ما كنت قد تعلمته طوال المراحل الدراسية السابقة تعد الأجود والأجمل والأفيد. بعد إكمال السنة التحضيرية في الماجستير، حرصت على أن يكون الأستاذ أحمد برقاوي هو مشرفي العلمي على الرسالة. وسعدت بموافقته بالإشراف. كانت أزمة الوحدة اليمنية بين البيض الجنوبي وصالح الشمالي في أوجها في مطلع 1993م وكان علي سالم البيض حينها معتكفًا في معاشق بعدن. وأتذكر أن البيض استضاف الدكتور أحمد وزملاءه الأساتذة العرب ومنهم: الراحل طيب تيزيني وحامد خليل وعبدالسلام نور الدين ونمير العاني وعبد الشافي صديق، استضافهم على وجبة عشاء في دار الرئاسة، فانتظرناهم في فندق عدن حتى عادوا برفقة الأستاذ صالح باصرة رئيس الجامعة حينها. ربما كانت الساعة العاشرة. سألنا الدكتور أحمد عن انطباعه عن جلستهم مع البيض الرئيس؟ فرد باقتضاب (الرجل انفعالي ومغرور ومكتفٍ بذاته وحاسمها مع نفسه وليس له بالسياسة) ثم انزوى الدكتور أحمد برقاوي برئيس الجامعة وأوصاه بضرورة قبولي عضوًا في هيئة التدريس المساعدة بكلية الآداب، فأومأ باصره برأسه موافقا وهذا ما تم بعد سنوات. كان موعد رحلتهم إلى دمشق في فجر اليوم التالي فودعناهم على أن نلتقي بخير وسلام.بعد ستة أشهر من العمل بالرسالة ذهبت برفقة الزملاء توفيق مجاهد وعبد بن بدر وصالح مدشل لمقابلة المشرفين في دمشق. أنا وتوفيق مشرفنا الدكتور أحمد وعبده بن بدر مشرفه حامد خليل وصلاح مدشل مشرفه الطيب تيزيني. كنت قد كتبت فصلين برسالة الماجستير سلمتها للمشرف وبعد أيام بدأت في مقاربة عالم المفكر العربي المعاصر أحمد نسيم برقاوي الرحيب الأرجاء. وما زلت أجمع المادة الضرورية لبناء النسق الكتابي الذي يستحقه فيلسوف الأنا المتحررة من كل أشكال الهيمنة القطيعية والمؤسسة القامعة للذات الفردية الجديرة بالحرية والكرامة والفرح والجمال. عرفته قبل أن التقيه عبر كتابه ( محاولة في قراءة عصر النهضة 1986) كتاب صغير الحجم عظيم الأهمية. البرقاوي وحده الذي أيقظني من سبأتي الدجمائي!
       لقد تعلمت منه محبة الفلسفة ومنهج ممارستها والسؤال هو بما أن الفلسفة هي نشاط العقل فما الذي يحدث للعقل عندما ينطلق في حركة سهمية في رحلته لفهم العالم واكتشاف حقائقه؟ هل ، بقدر ما ينتهي به الأمر إلى اكتشاف “حقيقة” الأشياء ، يجهل ، بالمقابل، ذاته أي يخسرها في شكل ذوبان في تمظهرات الأشياء المادية، أو أنه يعود إلينا بغنيمة الاكتشاف مضاعفا بوعي ذاتي بضرورة التعمق في معرفة ذاته أكثر؟ بعبارة أخرى، هل يغترب العقل في دروب رحلته “السندبادية لتعقل ” الآخر” أم يعود، كما كان، عند انطلاقته صافي السماء شاحذ الأداة؟ ولأن هذه العودة الغانمة، المغتنية والمغنية هي التي لا تحدث في الغالب” فإن الحاجة إلى نقد أوثان العقل وأوهامه هي ح