آخر تحديث :السبت-20 ديسمبر 2025-07:05م

مصطلح الجنوب العربي.. والغضب السياسي بإنكار الجغرافيا

السبت - 20 ديسمبر 2025 - الساعة 05:05 م

صالح ابوعوذل
بقلم: صالح ابوعوذل
- ارشيف الكاتب


إنكار وجود “الجنوب العربي” يشبه، من حيث المنطق، إنكار أحد الاتجاهات الجغرافية والقول إن العالم بثلاثة اتجاهات لا أربعة. فالمصطلح، في جوهره، توصيف مكاني قبل أن يكون شعارًا سياسيًا، وجنوب الجزيرة العربية حقيقة جغرافية ثابتة لا تُلغى باختلاف المواقف.

تكمن الإشكالية لدى بعض الباحثين اليمنيين، حتى ممن يقدّمون أنفسهم بوصفهم “أكاديميين”، في بناء مواقفهم على حالة غضب أو سخط سياسي آني، ثم التعامل مع هذه السردية بوصفها حقيقة تاريخية ثابتة.

والحقيقة أن الهويات السياسية لا تُولد في لحظة انفعال، بل تتشكّل عبر معادلات وطنية وتاريخية وسياسية معقّدة، ولا توجد دولة في العالم قامت على “حذر تاريخي خالص” أو اسم أزلي لا يتغيّر.

معظم دول العالم، بما فيها الدول العربية، تشكّلت في فترات زمنية متقاربة خلال القرن العشرين. المملكة العربية السعودية نفسها مرّت بثلاث مراحل تاريخية، وصيغتها الحالية لم يتجاوز عمرها قرنًا من الزمن، كما أن دولًا عربية أخرى لا يتجاوز عمرها السياسي خمسين أو سبعين عامًا. هذا مسار طبيعي في تشكّل الدول والهويات السياسية.

في الحالة اليمنية تحديدًا، لم يكن هناك كيان سياسي تاريخي باسم “اليمن” بالمعنى الحديث. التسمية في أصلها توصيف جغرافي: الشام شمال الكعبة، واليمن يمين الكعبة. وحتى قيام النظام الجمهوري في صنعاء في ستينيات القرن الماضي، كان الكيان القائم يُعرف بـ“المملكة المتوكلية”، وتشير بعض المراجع إلى أن “اليمن” كهوية سياسية لم تتبلور إلا في عشرينيات القرن العشرين.

أما “الجنوب العربي”، فهو توصيف جغرافي وسياسي واضح: جنوب الجزيرة العربية، الممتد من باب المندب غربًا حتى حدود سلطنة عُمان شرقًا. وهو “جنوب عربي” لأنه يقع جنوب الجزيرة العربية، لا لأنه نتاج قرار إداري. صحيح أن بريطانيا أنشأت كيانًا باسم “اتحاد إمارات الجنوب العربي”، لكن هذا لا يلغي أن الجنوبيين خاضوا نضالهم من أجل الاستقلال تحت راية الجنوب العربي، لا بوصفهم امتدادًا لكيان آخر. كما أن رفضهم لمشروع “اليمننة” جاء نتيجة تجربة سياسية قاسية، لا نزوة لغوية.


هنا يبرز السؤال الجوهري الذي ينبغي طرحه بوضوح: ما هو الجذر التاريخي لكيان سياسي باسم “اليمن” وأين قامت مملكة تاريخية موثّقة تحمل هذا الاسم؟ لا توجد إجابة تاريخية حاسمة على ذلك، ما يعيدنا إلى الأصل: اليمن توصيف جغرافي، كما أن الجنوب توصيف جغرافي، ولا تناقض بين الأمرين إلا في السرديات المؤدلجة.

وإذا كان يُقال إن حضرموت ليست جزءًا من الجنوب العربي، فهل يعني ذلك أنها ليست جزءًا من اليمن؟ وكيف يمكن، باسم الدفاع عن حضرموت، سلخها عن محيطها الاجتماعي والتاريخي ومنحها هوية مستوردة لا جذر لها في الواقع؟ فالتاريخ يثبت أن القبائل الجنوبية كانت، منذ قرون، تعتبر حضرموت عمقًا اجتماعيًا واستراتيجيًا، كما أن الحضارم لم يكونوا محصورين في نطاق جغرافي ضيق، بل كانوا جزءًا حيًا من عدن وأبين وشقرة ولودر وسائر مدن الجنوب، في نسيج اجتماعي واحد.

النقاش الحقيقي الذي يستحق الجهد البحثي ليس إنكار الجغرافيا أو تفكيك المسميات بانتقائية، بل دراسة الأبعاد التاريخية والسياسية التي أنتجت الهاشمية السياسية والزيدية الجارودية في شمال اليمن، وكيف تحوّل مفهوم “اليمن” في ظل هذه البنية إلى أداة هيمنة وإقصاء، حتى بات اليمني نفسه مُضطهدًا باسمها، في السياسة وفي الخطاب.

هذه ليست دعوة للخصومة، بل نصيحة محب:

التاريخ لا يُقرأ بعين الغضب، والهوية لا تُبنى بردّ فعل، والجغرافيا لا تُلغى بمنشور.


* من صفحة الكاتب على إكس