آخر تحديث :الأحد-07 ديسمبر 2025-02:03ص

في نقد ماركس الأيدولوجيا الالمانية

الأحد - 07 ديسمبر 2025 - الساعة 02:03 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


في الحلقة الثانية من دراستنا النقدية لمشكلة الدين والماركسية. توقفنا عند الفقرة التي كتبها التلميذ كارل ماركس بوصفها البذرة التي حلمت في جوفها نظريته المادية للتاريخ إذ كتب" أن المرء لا يستطيع اختيار مهنته بحرية وأنه يولد في شروط تحدد سلفاً مهنته وتصوره للعالم" ( ينظر هنري ليفيفر، كارل ماركس، ترجمة محمد عدناني/ دار بيروت 1656ن، ص33) وتقوم النظرية المادية للتاريخ على فرضية، أن حياة الناس الاجتماعية والثقافية والأخلاقية والفكرية تحددها شروط حياتهم الاقتصادية ونمط العلاقات الاجتماعية المتعينة إذ إن الناس في سعيهم من أجل إشباع حاجاتهم الحيوية وتحقيق مصالحهم المعيشية من الغذاء والكساء والمسكن هم من يصنعون تاريخهم بأنفسهم ولكنهم لا يصنعونه على هواهم بل في ظل شروط وممكنات معطاة لهم سلفا من الماضي ليس بمقدورهم تجاوزها بضربة واحدة.

واصل ماركس الدراسة الثانوية في كلية ترير حتى عام 1835م حينما شاعت في أن الكلية تصدر رسائل سياسية نقدية تدعو إلى الحرية والديمقراطية الشعبية وأكبر الظن أن الفتى كارل ماركس هو الذي كان يكتبها. وبعد عام 1830م عرفت مقاطعة ماركس يقظة في الوعي الديمقراطي والميل الحافز على الثورة، وكان الوضع الاقتصادي في المنطقة يميل الى التأزم الخطر... وكانت تنتشر مع الأفكار التحررية والديمقراطية الوافدة من فرنسا أفكار الاشتراكيين الأوائل- السان سيموينيين. وفي عام 1835م ظهر في ترير مؤلف نقدي لاذع بقلم (لوديغ فرماخ ) جاء فيه " تفصل بين الطبقات الكادحة والطبقات المحظوظة مصالح متناقضة، ولذلك تنهض هذه ضد تلك " وقد أطلع ماركس على هذا المؤلف، وبهذا يتضح لنا لماذا كان ماركس ينكر أنه هو من صاغ فكرة " صراع الطبقات "( ينظر، هنري لفيفر، المرجع السابق، ص78)

في أواخر عام 1835م قد كارل ماركس الى جامعة بون لدراسة الحقوق واحتك بالاوساط الليبرالية التحررية، وأنضم الى " نادي الشعراء " وكان يقول الشعر. ويهيئ نفسه لتخصص الاداب أما رفاقه في نادي الشعراء فكانوا من أبناء البرجوازيين الليبراليين. وفي ربيع 1936 نشب نزاع عنيف بين هذه النوادي التحررية، وبين منظمة " كوربس بوروسيا " الاستقراطية. وخاض كارل ماركس مبارزة عنيفة ضد أحد أعضاء " الكوربس " وأصيب بجرح في حاجبه الأيسر.وفي عام 1836م بلغ ماركس الثامنة عشر من العمر، فعقد خطوبته على جيني فون وستفالن سراً.. لأنها من طبقة اجتماعية مرتفعة تختلف عن طبقة التحتية لكن أبو جيني، لودفيج فون وستفالن لم يكن يجاري طبقته الاستقراطية في مزاعمها وأوهامها إذ وافق على زواجهما

كانت جيني تكبر ماركس بأربع سنوات، وكانت تهيمن بجمالها على مدينة " ترير " وقد ظلت أوساط المدينة عشرات السنين تذكر تلك الحسناء التي سميت (الاميرة الساحرة) و (ملكة البالية)في الواقع كانت الحوادث كلها تتضافر لتضفي على قصة حب كارل ماركس لجيني فون طابعاً مؤثراً يحفل بالشعر والخيال.... وفي عام 1843م بدأ كارل ماركس حياته الثورية وكان له من العمر أربعة وعشرون عاماً وإثر وفاة أبيه، نشب الخصام بين ماركس ووالدته بسبب الظروف المادية- حيث أطلقت تلك الكلمة المشهورة:

" كان أفضل لأبني كارل لو جمع شيئاً من رأس المال بدلاً من أن يؤلف المجلدات عن رأس المال "

ورغم ظروف الفقراء والمنفى والملاحقات الأمنية الا إن ماركس تزوج من جيني في 23 حزيران 1843م في مدينة كروزناخ، وبذلك حظي ماركس بفرصة ( لعلها الوحيدة في التاريخ )، فوجد في رفيقة حياته الشريكة التي كان يريد، فقد عرفت جيني كيف تخوض المعارك الى جانبه وكيف تشد أزره، وكانت تحوطه بالعطف والحنان وتشاركه أبحاثه ودروسه.

في الواقع لقد عاش ماركس حياة زاخرة بالأحداث وفي عصر يتقد بالصراعات والحركات الاجتماعية السياسية الفكرية.

وفي برلين ترك الشعر والحقوق واكتشف الفلسفة فكتب الى والده " دون مذهب سياسي منظم لا يبلغ الإنسان أي غاية "

هكذا يكشف ماركس عن أزمة فكرية عميقة عاناها في شبابه وتقدم لنا مراسلات ماركس في هذه المرحلة، ولا سيما رسالته الى والده بتاريخ 10/ نوفمبر/ 1837 المؤلفات الكاملة جزاء نص 313- 331- معلومات دقيقة عن هذه الأزمة الفكرية الأولى حيث يكتب:

" لا يستطيع الشعر أن يكون، ولا يجب أن يكون، إلا هامشاً جميلاً كان عليّ دراسة الحقوق، ولكنني أحسست بميل خاص الى الفلسفة "

هذا التحول من رومانسية الشعر وواقعية والتشريع الى الفلسفة الكلية زاد ماركس مرض فوق مرضه وفي أثناء مرضه تابع قراءة " هيجل وقد حيره ذلك التعارض بين الفكر المثالي والواقع الحياتي ودون أن يكف عن نشدان الفكر في ثنايا الواقع. ولم يمكن من الناحية التاريخية فصل هذه الفلسفة الجديدة عن العصر ذلك العصر الثوري . فقد شهد الفلاسفة إنقلابات ذلك العهد واضطراباته. إذ كانت أصداء الثورة الفرنسية عام 1798م ما زالت تهز أوروبا وبالذات المانيا المجاورة، التي كانت جيوش نابليون تجوب شوارعها بين الفينة والآخرى، ورأى الألمان بأم أعينهم زوال المانية القديمة ، المانيا البطريركية العاطفية الحالمة الشعرية الموسيقية، ولكن المحدودة المجزأة الى دويلات اقطاعية ضيقة، وفي جيع الأرجاء كانت الرأسمالية تنشأ، وكانت البرجوازية الصاعدة تفجر الأطر الاقطاعية القديمة، وكانت فرنسا قد أتمت ثورتها، والمانيا تتقد بحرارة وغموض نحو ثورتها التي تحقق لها وحدتها القومية وحريتها السياسية معاً.

وكان الفلاسفة الألمان يرقبون كل تلك الأحداث ويتأملونها محاولين تفسيرها؛ تفسيراً عقلياً. وهذا ما فعله هيجل – بالفكرة المطلقة.

في البدء أكتشف الفلاسفة التقدم ففي حقول الحياة المعنوية والمعرفة، والحياة الاجتماعية يعبر الفكر عن ذاته بحركة تقدم تاريخي لا يعيد الماضي نفسه إعادة رتيبة محضة، بل تجديدي فليس ثمة من ركود أبدي- لكن هذا التقدم لا يتم من هدوء وفي خط مستقيم وفقا لقوانين سابقة الوجود وإنما يتم خلال تناقضات عديدة. وأحل هيجل محل النزعة التفاؤلية الساذجة بالتقدم التاريخي التي كانت سائدة في القرن الثامن عشر، فلسفة تدرس قبل كل شيء ما في الحياة والفكر والمجتمع من تناقضات في سبيل اكتشاف الحركة والصيرورة التقدمية التي تتمخض عن هذه الظاهرة الجديدة التي تحتشد فيها وحدة وصراع الاضداد ونفي والنفي والموت والميلاد وهذا ما يسمى ( بالديالكتيك الهيجلي) ف

حول هذا الديالكتيك الجديد تجمع الشباب الهيجليون اليساريون من أتباع هيجل ومنهم ماركس كانوا يلحون في توكيد الجانب الثوري من ديالكتيك هيجل. وقد أعطى الهيجلي الشاب دافيد ستراوس إشارة البدء في تجديد الفلسفة الهيلجية على هذا النحو سنة 1835م حين أصدر كتاب " حياة يسوع " نقد الدين والفكر الديني في المانيا.

وكان نشر كتاب " حياة يسوع " حدثاً عالمياً، فهذا مفكر هيجلي يهاجم الدين الرسمي للدولة؛ وهذا موضوع يعد بين أقدس الموضوعات التي لم يجوز مسها ابد من قبل فاذا به صار يدرس بطرق النقد التاريخي ومناهج العقل انذاك وفي تلك اللحظة بالضبط كتب ماركس:

" إن نقد الدين هو الشرط الأول لكل نقد "


تجمع الهيجليون الشباب في ناد سموه نادي " الدكتور كلوب " وكان من ألمع أعضائه وأعظمهم تأثيراً بورنو باور، وكان يتابع بأسلوب مبدع ما بدأه ستراوس في نقد المسيحية.

وقبل ماركس فوراً في نادي الدكتور كلوب، وكان يشارك في ذلك العهد باور جميع أفكاره، وفي عام 1840م غير النادي أسمه فأصبح " نادي أصدقاء الشعب " وكانت شخصية كارل ماركس الصاعدة تتكامل وتتوطد، وقد وصفه أحد أصدقائه هيس بهذه الكلمات في رسالته الى أورباخ في الثاني من أيلول1841م.

" إن أعظم فيلسوف معاصر، بل الفليسوف الحقيقي الأوحد الدكتور ماركس، ما يزال في ريعان الشباب، إنه هو الذي سوف يجهز على الدين ويسدد إليه الضربة الأخيرة، ويقضي على أساليب السياسة التي نشأت في القرون الوسطى. وهو يجمع الى الوقار الفلسفي العميق الكامل، ذهناً لأحد لارهافته، تصور روسو، وفولتير ودولباخ، وليسنيج، وهاين، وهيجل موحدين في رجل واحد! أقول "موحدين" لا مختلطين كيفما أتفق ودون إنسجام- تصوير هذا كله وعندئذ تعرف من هو ماركس"( ينظر، هنري لوفييفر، كارل ماركس،ترجمة محمد عدناني، دار بيروت١٩٥٦، ص٨٧)

حرصنا على إيراد هذا النص لأنه جماع الموقف كله، وهو خير ما يعبر عن تلك المناخات والفضاءات الروحية والفكرية التي عاشها ماركس وفكر من وحي مشكلاتها الواقعية فقد عاصر ماركس وأستوعب كل هؤلاء الفلاسفة الذين ذكرهم هيس في رسالته الى أورباخ- أنه تمثلهم وأستوعبهم في نسق فكري عضوي منسجم فأبدع مشروعه الفلسفي الماركسي.

وهكذا يمكن القول ؛ أن نقد الدين في عهد ماركس كان سمة مميزة لفلسفة القرن التاسع عشر، ولقد كان الفيلسوف الالماني الشهير فيورباخ في مؤلفه الشهير " ماهية المسيحية " من أعمق الفلاسفة الذين سددوا نقداً لاذعاً للدين، حيث توصل فيورباخ في نقده للمسيحية- أن البشر نتاج الظروف والتربية، نتاج رد فعل الكينونة على الوعي وكان يظهر للعيان على هذا النحو من الإنسان بما هو عليه من حال برأسه وذراعيه وساقيه لا يتميز عن سائر الحيوانات إلا بالحس الذي هو ليس سوى انعكاس سلبي للمؤثرات الطبيعية.

وتوصل فيروباخ الى القول بأن "الإنسان هو الذي خلق الإله على صورته ومثاله وليس العكس وذلك بحكم عجز الإنسان عن مواجهة قوى الطبيعة" (ينظر، الياس فرح، تطور الفكر الماركسي/ عرض ونقد، الطبعة الثالثة، دار الطليعة بيروت، مارس/ 1974م)

ويرى ريتشارد شاخت في كتاب " الإغتراب " أن فيروباخ قد أوضح كيف أن الإنسان قد وضع أفضل صفاته في الألوهية الى أن أصبح الإله صورة الكمال وغدا الإنسان خاطئاً يفتقد الكمال بصورة لا يرجى لها البرء، إن الإنسان يجرد ذاته من كل ما هو طيب وقوي ليخلقه على الإله وكلما جعل الهه أعظم جعل نفسه أكثر ضاله"

في الواقع أن نظرية فيروباخ في الدين يمكن أن يفصح عنها قول فيروباخ نفسه:

" إن مذهبي بإختصار هو كما يلي: أن اللاهوت هو الانتروبولوجيا، بمعنى أن ذلك الذي يفصح عن ذاته في موضوع الدين أي الرب Theos باللغة اليونانية والله Gott باللغة الالمانية لا يغدو أن يكون جوهر الإنسان، وبتعبير آخر فإن إله الإنسان ليس إلا الجوهر المتأله للإنسان"( ينظر، ريتشارد شاخت، الاغتراب، ترجمة: كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدارسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، ص 48.)

ويمكننا إجمال هذا الموقف بلغة فيتشه الذي كتب: أن الإنسان خلع على موضوع خارجي صفاته الجوهرية في تعارض مع ذاته وبقيامه بذلك فقد تنازل عما هو جوهري بالنسبة له، أي أغترب عن ذاته الحقيقية كما سوف يحدثنا ماركس في نقده للدين في الحلقة التالية.