آخر تحديث :الأحد-15 يونيو 2025-10:02ص

تأملات في معنى الحرب ومداراتها .. من وحيها

الأحد - 15 يونيو 2025 - الساعة 01:12 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


حرب، حربة، حرابة، محاربة، من الكلمات التي يرددها الناس كل يوم في حياتهم بمعاني ودلالات مختلفة؛ حرب استنزاف، حرب تقليدية، حرب نووية، حرب ظالمة ، حرب بيولوجية ، حرب بارد، حرب مقدسة ، حرب أهلية حرب عالمية ، حرب تحرير، حرب، عادلة، حروب الموجة الثالثة؟ حرب خاطفة؟ حرب طويلة، حرب مدن ، حرب إعلامي،حرب شاملة، حرب عصابات ، حرب برية، حرب جوية ، حرب بحرية، حرب نووية، حرب ذكية، حرب خاطفة ، حرب عصابات، حرب رقمية .. الخ من المعاني التي تدل عن معنى الحد القاطع أو رأس الرمح، ومنها اشتقت كلمة حرابة بمعنى قطع الطريق ونهب العابرون فيها. وتعد الحرب من أخطر الظواهر الاجتماعية وكثرها اثرا في مسار تاريخ البشرية إذ رافقت حياة الإنسان منذ أقدم العصور وهي اعنف أنماط التفاعل والانفعال بين الفاعلين الاجتماعية، منذ الأنياب والمخالب إلى الرجم بالحجارة اليدوية إلى السيف والرمح إلى البندقية إلى المدفعية والقنابل والصواريخ الطائرة إلى الريبوتات والمسيرات الذكية؛ هكذا تطورت أدوات القتال بين الكائنات البشرية أما الحيونات لا تحارب أبدا بل ظلت تستخدم أعضائها الطبيعية في تدبر عيشها. في حقيقة الأمر يمكن النظر إلى الحرب بوصفها نوع من أنواع القوة البشرية وتعد حرب بني أمية وبني هاشم من قريش العربية أطول حرب في التاريخ إذ نشبت قبل ١٤٠٠ عاما ودارت واستدارت واستمرت حتى الآن. يقول المستشرق لجرنز وويل «كم ألفاً من السنين بقيت هذه الحالة من الوجود (أي كون العرب يعيشون في (حالة حرب) دائمة سيخبرنا أولئك الذي سيقرأون أقدم سجلات الصحراء الداخلية، ذلك أنها تعود إلى أولهم لكن العربي عبر القرون كلها لم يستفيد حكمة من التجربة، فهو غير آمن أبداً ومع ذلك فإنه يتصرف وكأن السلم والأمان خبزه اليومي؟( ينظر، ادوارد سعيد، الاستشراق؛ المعرفة، السلطة، الإنشاء، ترجمة، كمال ابو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1980، ص120)

استوقفتني تلك العبارة بشأن تاريخ الحرب والسلم عند العرب منذ أن قرأتها في منتصف ثمانينيات القرن الماضي وربما كان ذلك بعد الحرب الأهلية الموجعة التي شهدتها مدينة عدن عام 1986م وعشت تفاصيلها المربعة وانا في سنة ثالثة جامعة.

طبعا لم تكن تلك هي الحرب الوحيدة التي عشتها في بلادي بل ربما كانت حلقة واحدة من حلقات سلسلة الحروب المستمرة. فأنا من مواليد عام سنة القنابل! هكذا كانت أمي رحمة الله عليها تحدثني عن تاريخ ميلادي، إذ تذكرت أنها حملتني في تلك السنة التي القت بريطانيا العظمى بقنابلها من الجو على قرى الفدائيين في وادي يهر بيافع وكان نصيب قريتنا قنبلة كبيرة ألقتها على أخصب جيزة لأشجار البن ( جيزة بن سبعة) مازل أثر القنبلة الجهنمية محفورا في جسد جبل شمسان في ودي يهر الحاني؛ مثل الجرح الدامي حتى الآن. حدثتني أمي الحانية باني أبي عبد عوض المحبشي رحمة الله عليه حفر في ذلك العام ملجأ آمنا في قلب الجبل الخاص بقربتنا ( بغدة) اشبه بالكهف الصغير يتسع لافراد عائلتنا الصغيرة حينها أمي وابي واخواتي وخواتي الخمسة وأنا ما زلت في آمن مكان يحله جنين الإنسان بطن أمي. نعم ولدت زمن حرب التحرير من الاستعمار الإنجليزي في عدن وحرب حصار صنعاء وعشنا وشفنا سلسلة مهولة من الحروب الأهلية الصغير والكبيرة منها أول حرب بين الجبهتين القومية والتحرير بعد خروج الإنجليز من عدن بعام واحد فقط ثم عام 1968، ثم حرب العنف الثوري المنظم

والخطوة التصحيحية وليلة السكاكين الطويلة عام 1969م ثم حرب الثورة الفلاحية والتأميم ثم حرب الحدود بين دوليتي عدن وصنعاء عام 1972م ثم الحرب الأهلية في عدن التي أغتيل فيها رئيس الجمهورية في الجنوب سالمين ورئيس جمهورية الشمال الحمدي والغشمي وما تلاها من حرب بين الجمهوريتين؛ اليمن الديمقراطية والعربية اليمنية عام 1978م ثم الحرب الأهلية في 13يناير1986م وهي اشدها فتكا وأثرا في نفسي إذ كنت حينها في سنة ثالثة بقسم الفلسفة بكلية التربية العليا عدن وأسكن في القسم الداخلي بخور مكسر وعشت في تفاصيل تلك الحرب المجنونة التي تركت آثارا غائرة في النفس والذاكرة فضلا عن أثرها الكارثي على صعيد الوطني والاجتماعي ليس من أغراض هذه المقالة.

بعد تلك الكارثة التي فقدت فيها زملاء وأصدقاء اعزاء تغير كل شيء في حياتي فاخذت ابعث في معنى الحرب ومسبباتها

إذ قرأت كتب كثيرة منها؛ كتاب الأمير ل نوقولا ميكافيللي ومقدمة ابن خلدون وكتاب عُسر الحضارة ل سيجموند فرويد وكتاب كارل فون كلاوزفيتز عن الحرب وكتاب فن الحرب الصيني صن تزو وكتاب الحرب والحضارة لِ توينبي وغيرها. كتب حبيب سروري " من لم يقرأ بعدُ كتاب «فن الحرب»؟ للفيلسوف الاستراتيجي الصيني الشهير سان تزو 2500 ففي رؤية سان تزو: يلزم أن تتناغم الحرب معنموذج الطبيعة. استعارةُ الماء هامَّةٌ هنا، تتكرَّرُفي أماكن كثيرة من الكتاب. يقول سان تزو:

«يسيل الماء على إيقاع تضاريس الأرض. كذلك،بالانسجام مع تغيُّرات وضع العدو يُكسَبُ النصر. ليس للماءِ شكلٌ ثابت. كذلك، ليس للعملياتوصفاتٌ جامدة. من يستطيع الانتصار بفضلتكيُّفاته مع مختلف التغيرات يستحق أن يُسمَّى: محارباً إلهياً».

يقول استراتيجيٌّ صينيٌّ آخر عاش في القرنالثاني قبل الميلاد، هواي نان تسو: «كنْ كالشبح الذي لا يترك أثراً، كنْ كالماء الذي لا يجرحهُأحد»( ينظر، حبيب سروري، من لم يقرأ بعدُ «فن الحرب»؟من لم يقرأ بعدُ «فن الحرب»؟مقالاتي، ١٣ مارس ٢٠١٤) وهو المقال المهم الذي استهله بعبارة سان تزر" «يكمنُ فن الحرب في هزيمة العدو دون مواجهة،دون أدنى خسارة، دون قطرة دم!»... «قبل خوض المعركة يلزم أن يكون النصر قد تحقَّق تماماً!»

من بين عوامل كثيرة آخرى كانت الحروب التي عشتها وشاهدت نتائجها دافعا قويا لي للبحث في الفلسفة الوجودية التي درستها على يدي الدكتور أحمد نسيم برقاوي في السنة التحضيرية للماجستير عام 1992م

كانت جرعة المعرفة الفلسفية البرقاوية اشبه بقدح زناد الذهن والروح. كانت لحظة معرفية قصيرة لكنها بالقياس إلى كل ما كنت قد تعلمته طوال المراحل الدراسية السابقة تعد الأجود والأجمل والأفيد. إذ فتّح ذهني على وقعنا الذي يحيط به الموت والتهديد والضياع من كل الجهات. كنت حينما استمع اليه وهو يتحدث قلق الوجود والحرية والأخيار في الفلسفة الوجودية اسرح بخيالي في عالم شديد التهديد والخوف الوجودي مما يجعلني اعيش الوجودية بكل تفاصيلها. كان وقع حياتنا وجوديا بامتياز فالموت يحوم فوق رؤوس الجميع. منذ تلك الأيام وانا احفظ أبيات الشاعر الجاهلي زهير بن إبي سلمى


وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ

وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ

مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً

وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ

فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها

وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ

فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم

كَأَحمَرِ حاشد ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ

قالها قبل 1400 عاما ولا زالت تحتفظ بكل معناها الدقيق في توصيف تلك الظاهرة الاجتماعية التاريخية البشرية بدقة متناهية.

فما هي الحرب؟


لا شيء بدون قوة


تأملت تاريخ العالم منذ بدايته فوجدت أن كل شيء مرهون بالقوة؛ قوة الحياة وطاقتها الحيوية بحسب برجسون بمعنى القدرة على التخصيب والنماء والولادة والحركة والتطور وقوة الفكر بمعنى القدرة على الإدراك والفهم والتخيل والتنبؤ وبين القوة والعجز يدور التاريخ وقواه ولكل كائن في هذا الكون تاريخ واحد هو تاريخه الطبيعي الذي هو طبعة ونظام سلوكه وقواعده وقانونه؛ الحفاظ على البقاء ومقاومة الفناء لكن للإنسان تاريخين: " تاريخ طبيعي يشارك به جميع الكائنات الطبيعية وتاريخ وضعي يضعه لنفسه ويضع فيه العلوم والآداب والفنون والسياسة والأخلاق والتشريع والزراعة والصناعة والعمارة.ولا يكون التاريخ إلا حركة وصراع وتكيف بالتطور وتطور بالتكيف ورد فعل واتخاذ موقف في مواقع محمية وتبرير المواقف وتحصين المواقع بما يحقق القوة والحماية والعافية والآمن والآمان ولا يكون التاريخ إلى مجمل تاريخ صراع الإنسان ومواقفه إزاء الطبيعة الذي هو قصة تطوره الذي هو قصة تكيفه الذي هو رد فعل الإنسان ومواقفه إزاء الطبيعة بما فيها طبيعته هو التي هي أشد الطبائع عناداً وتمرداً على التطويع واستغلاقاً على الفهم والتاريخ تاريخان :تاريخ الضرورة والواقع والحياة وهو التاريخ الفعلي الذي يدور حول محول التجارة والحرب والاحتكار وتلك حقيقة لا خير ولا شر ولا جبر ولا اختيار، بل سنة من سنن الله سبحانه وتعالى وحقيقة من حقائق التاريخ فيه فقراء ضعفاء مغلوبون مقهورون يخدمون أغنياء أقوياء غالبين قاهرين في السلم ويدافعون عنهم في الحرب. وتاريخ متخيل: تاريخ الحلم والأمل والرجاء والمثال الذي نريده ونتمناه ونحلم به يدور حول محور العمل للإنتاج واللعب للابتهاج والاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير والعدل والخير والجمال للجميع.

ثمة من يحاجج بإن الحرب ضرورة تاريخية وإن تاريخ الإنسان هو تاريخ تدافع وصراع وقتال وإنا الله تعالى ذاته قد شرع الحرب بقوله (لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) بل يذهب بعض انصار حتمية الحرب إلى أنها متأصلة بالطبيعية البشرية بصفتها خاصية بيولوجية للكائن الإنساني الذي هو بطبيعته أناني عدواني.

في الواقع كان السؤال الذي أقلق معظم المفكرين والعلماء المعاصرين هو: هل يستطيع الإنسان الحديث البقاء؟ وما هي الشروط التي يمكن تحقيقها إذا ما أراد البشر الاستمرار على العيش زمناً طويلاً؟ تلك هي المشكلة التي لخصها برتراند رسل في كتابه (هل للإنسان مستقبل) 1969م إذ أوضح "انه فيما يتعلق بالشروط الجدسية لا يلوح ان ثمة سبباً كافياً يمنع الحياة بما في ذلك الحياة الإنسانية ألا تستمر ملايين السنين. لكن الخطر يأتي ليس من وسط الإنسان البيولوجي وإنما من ذاته"لقد عاش الإنسان في وضع يسوده الجهل والتوحش، فهل يستطيع الاستمرار على البقاء الآن بعد أن فقد درجة الجهل المفيدة وإذا كان خوف الإنسان الغربي من خطر الحرب النووية قد خفت سعيره في السنوات الماضية فها هو اليوم يعاود الحضور بصورة مرعبة من قلب العالم الصناعي، فضلا عن أن مصادر القلق والخوف والتشاؤم قائمة اليوم في مظاهر عديدة، منها الخوف من فيروس كورونا كوفيد-١٩ والخوف من التلوث البيئي، الخوف من أن يؤدي هذا التمركز للعالم في مدينة كونية واحدة، عبر هذا الحضور الطاغي للعالم المنقول بسرعة الموجات الكهرومغناطيسية إلى نوع من الانحباس والاستلاب للشخصية الإنسانية في العالم المتحول الى شبه مقصورة هاتف... وهذا ما يسمه (فيريليو بـ تلوث المسافات وسيناريو تدمير ألذات) وماذا لو تهور رئيس كوريا الشمالية وضغط على زناد الصاروخ النووي؟ العالم على كف عفريت مسلح! قال المنور الفرنسي مونتسكيو في أواخر أيامه قبل أربعة قرون "أنني أرتعد فرقا مما سوف يسفر عنه التقدم التقني في المستقبل" وهذا هو ما تحقق فعلا في القرن العشرين إذ أدّت التكنولوجيا إلى زيادة مهولة بضحايا الحروب لاتقارن أبدا بما كان قبلها.كتب أستاذ علم النفس والمحاضر في جامعة "ليدز بيكيت قائلا" حينما ننظر إلى تاريخ الحروب، سنجد أنه كلما مر الوقت ازداد عدد القتلى بجنون، فمثلا تسببت الحروب التي نشبت بين عامي 1740 و1897 في قتل 30 مليون شخص، في حين تتراوح نسبة القتلى في الحرب العالمية الأولى ما بين 5 ملايين إلى 13 مليون شخص، أما الحرب العالمية الثانية فتجاوزت كل هذه الأرقام لتحصد أرواح 50 مليون شخص (ومنذ ذلك الحين، انخفض عدد الوفيات الناجمة عن الحروب انخفاضا كبيرا لأسباب سنشرحها لاحقا)" ( ينظر، سمية زاهر، سيكولوجية الحرب 2022م) ربما ساعدت الرعب النووي الراهن في العالم إلى اعادة التفكير بالحرب على نحو جذري بوصفها ظاهرة يمكن تجاوزها ووضع حلول ناجعة لأسبابها فكما تمكنت العدد من دول العالم المتحضر من وضع حد للحروب الأهلية والدينية لاسيما في دول اوروبا الغربية فلماذا لا يتم التفكير بتجاوز الحروب السياسية بين الدول القائمة اليوم وهذا ما يعيد النظر والتفكير بمشروع السلام الدائم للفيلسوف الألماني أيمانويل كانط إذ إن مشروع السلام الدائم الذي طرحه قبل 250 عاما بات ملحا في عالم أضحى بفضل ثورة المعلومات والاتصال شديد التقارب والتداخل والتفاعل بعد انكماش الزمان والمكان وصيرورة العالم قرية كونية صغيرة يتشارك سكانها كل حوادثها واحداثه واخبارها وخيراتها وشرورها إذ يمكن للناس أن يتبادوا تحية الصباح كل يوم من طرف الأرض إلى طرفها بل يمكنهم أن يتحاوروا ويتخاصموا ويتقاتلوا في أي لحظة كما يحدث في القرية الصغيرة في أقصى الريف فالعولمة إذن هي العالم وقد أصبح قرية صغيرة يعرف أهلها عنها كلَّ شاردة وواردة ، كل صغيرة وكبيرة. وكلما زاد ارتباط الناس ببعضهم البعض كلما زادت حاجتهم لقيم التسامح والتعايش والحوار إذ إن خطاب التسامح والتقبل والحوار تستدعيه الحاجة والرغبة المشتركة للبحث في أفضل السبل الممكنة والآمنة للعيش والتعايش الاجتماعي السياسي المشترك لجميع الناس في بيئة اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية وأخلاقية ونفسية عالمية منظمة ومستقرة وأمنة. ولسنا بحاجة إلى التذكير بمدى احتياج مجتمعاتنا العربية الإسلامية إلى قيم التعايش والتسامح والقبول والتقبل المتبادل لاسيما بعد أن شهدت تاريخ طويل من النزاعات الدموية والحروب الكارثة.وعلى مدى السنوات الماضية استقطبت ظاهرة التقارب والاحتكاك والتصادم بين الشعوب والحضارات والثقافات والإفراد، وما صاحبها من شيوع وانتشار لقيم العنف والتعصب والإرهاب على الصعيد العالمي اهتمام عدد واسع من الدارسين والكتاب والهيئات وأخذت الدوائر الأكاديمية والثقافية تعقد المؤتمرات والندوات والنقاشات في كل البلدان، بشأن قضايا العولمة وحوار الحضارات والثقافات والاديان والتحديات التي تواجه الإسلام والشعوب الإسلام في ظل التحولات العالمية الراهنة والمستقبلية وسبل موجهتها. إذ افرزت العولمة وتحولاتها الراهنة أنماطا جديدة من الظواهر والمشكلات الإنسانية والاجتماعية، وسرعة تحولها إلى مشكلات عالمية، كمشكلة سباق التسلح والحروب والأمن والسلام الدوليين، ومشكلات البيئة العالمية والأوزون، ومشكلات التجارة العالمية والأزمات الاقتصادية وصدام الحضارات والاديان والتطرف والإرهاب، ومشاكل المال والأعمال العابرة للقارات. ومشكلات الإعلام الجديد والشبكات الاجتماعية ومشاكل الفقر والصحة والمرض، ومشاكل الهويات والتعددية الثقافية، والأقليات والتمييز والتعصب والاستبعاد الاجتماعي، والهجرة غير الشرعية والاندماج، والمخدرات والبطالة والفقر والحركات الاجتماعية، والمرأة والطفل والشباب، وكل ما يتصل بحقوق الإنسان، ومشاكل السياسة والنظم السياسية والعدالة والحرية والديمقراطية والمجتمع المدني. والمشكلات الأخلاقية للعلم؛ كالاستنساخ، وزراعة الأعضاء، ومنع الحمل، ومشاكل الفضاء السيبرنيتي والأقمار الاصطناعية والوسائط الإعلامية والتواصلية ومشاكل التربية والتعليم والجودة والاعتماد الأكاديمي وأخرها فيروس كورونا كوفيد ١٩ إذ لم يحدث في التاريخ الاجتماعي للإنسان منذ حواء و آدم وأنت طالع أن توحد العالم كله كما وحده فيروس كورونا. كل تلك المتغيرات والتحولات التي طالت كل مناحي الحياة الإنسانية والاجتماعية للعالم الراهن لا ريب وإنها قد أثرت على الشعوب والدول والثقافة الإسلامية ومن ثم فمن المهم على الفاعلين العالمين والمسلمين التصدي لها بإيجابية ووضعها موضع اهتماماتهم البحثية. والسؤال هو كيف يمكن الشعوب والدول والثقافات والاديان أن تتعايش في عالم شديد التقارب والتفاعل والاحتكاك؟ فكيف يمكن قراءة الحرب الذكية التي نشبت البارحة بين إيران واسرائيل في قلب العالم المسكون؟

يقول المثل الفارسي ( عود ثقاب يكفي لإشعال هذا العالم) بتلك العبارة استهل الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا بايار، كتابه أوهام الهوية"

وهكذا يمكن القول أننا نشاهد نمط جديد من أنماط الحرب في عصر التحول الرقمي إنها حروب موجة الحضارة الثالثة التي وصفها اولفين توفلر فحتى زمن قريب، كانت القوة العسكرية مجرد امتداد لقوة القبضة، قبضة اليد، أما اليوم فإنها كلها تقريباً في يد " الذكاء المختزن، وما الطائرة المقاتلة الاحاسوب طائر وحتى الأسلحة " الخرساء هي نفسها إنما يتم إنتاجها بفضل حواسيب وعناصرها إلكترونية مؤنقة إلى أبعد مدى. لقد حدد البتاجون الأمريكي مشروع تصور منظومة من الأسلحة، قادرة على القيام " بمليون استنتاج منطقي في الثانية " وينتهي توڤلر إلى تأكيد أن الهيمنة على المعرفة، سيكون العنصر الحاسم في التنازع على القوة، على المستوى العالمي، ذلك التنازع الذي سيقوم عما قريب داخل كل المؤسسات الإنسانية.

"كان نابليون يقول ششيئان يحيرانني؛ هما صراع السيف والعقل، فعلى المدى الطويل سينتصر العقل على السيف. في الواقع أن توفلر لم يكن هو صاحب ذلك الاكتشاف الرائع لوضع المعرفة في العالم الراهن،بل سبقه إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار في كتـــــابه ( الوضع ما بعد الحداثة تقرير عن المعرفة ) إذ يعد أول من بحث هذه المسألة وشخصها وحللها تحليلهاً ضافياً من وجهة نظر منهجية فلسفية ما بعد حداثية إذ ذهب إلى أن وضع المعرفة قد تغير منذ دخول المجتمعات الصناعية عصر ما بعد الصناعة وما بعد الحداثة منذ نهاية الخمسينات" ومن السهل ملاحظة أن توفلر قد نقل فكرة ليوتار نقلاً حرفياً فكرة " أن المعرفة ستظل تمثل رهاناً رئيساً في المنافسة العالمية على السلطة فمن المتصور أن الدول القومية ستحارب بعضها يوماً من أجل السيطرة على المعلومات، مثلما تقاتلت في الماضي من أجل السيطرة على الأرض وبعدها من أجل التحكم في الوصول إلى واستغلال المواد الخام وقوة العمل الرخيصة" ويضيف ليوتار:" لقد تم فتح مجال جديد أمام الاستراتيجيات الصناعية والتجارية من جهة والاستراتيجيات السياسية والعسكرية من جهة ثانية.وفي تحليله لأنماط المعرفة المتمايزة حدد ليوتار ثلاثة أنماط للمعرفة الإنسانية في ثلاث مراحل تاريخية وبدا وكأنه يعيد صياغة قانون المراحل الثلاث عند عالم الاجتماع الفرنسي اوغست كونت إذ أشار فرانسو ليوتار إلى أن هناك ثلاثة أنماط من المعرفة هي:

- نمط المعرفة الحكائية التي تعود إلى المجتمع القبلي البدائي، وربما الزراعي الرعوي وهي معرفة سحرية أسطورية خرافية.

- نمط المعرفة " الميتا – حكائية " – أي ما بعد الحكاية، وربما قصد بها المعرفة الفلسفية التي تعود إلى المجتمع الحديث إذ تسود فيه ما يسمى بالحكايات الكبرى "العقل – والقومية – والتقدم " وهي المنظومات الفلسفية المتنافيزيقية الشمولية التي شهدها العصر الحديث عند كانت وهيجل وماركس.

- نمط المعرفة العلمية: التي تميز المجتمع ما بعد الحداثي الراهن إذ تتحول المعرفة إلى سلطة عليا تختفي معها كل السلطات الأخرى، المشروعية المرجعية والغائية والتقدم والتنوير، إذ " تبدو نوعاً من ألعاب اللغة المستندة على قواعد محددة فورية تنبع من طبيعة اللعبة ذاتها وتمنحها عقلانيتها وشرعيتها"

هكذا نرى أن الإحساس المتزايد بسطوة التقدم المعرفي العلمي النظري والتطبيقي وما أفضى إليه ذلك التقدم من نتائج مذهلة على صعيد التفوق التقني وثورة المعلومات والاتصالات و الإنترنت كان إحساساً عاماً بين الشرائح المثقفة الاوروأمريكية.إذ يتفق الجميع في المبدأ على أن المعرفة أصبحت على نطاق واسع القوة الرئيسية للإنتاج و الثروة والتوزيع والمنافسة، ويختلفون في تشخيص هذه الظاهرة في نتائجها القريبة والبعيدة وابعادها المختلفة.