مر موسم حج العام 1446م بسلام، وأعلنت السلطات السعودية عن نجاح الموسم بعيدا عن كل محاولات اقلاق سكينة الحجاج وحرفها عن مسار المناسك التعبدية إلى مسارات أخرى، حيث سطّرت المملكة العربية السعودية ملحمة جديدة من التنظيم الدقيق والإدارة المتقنة، مجسدةً ريادتها العالمية في خدمة ضيوف الرحمن؛ فقد جاء هذا الموسم امتدادًا لمسيرة النجاحات المتعاقبة، وشهد تطورًا نوعيًا في مستوى الخدمات المقدمة للحجاج، سواء من حيث البنية التحتية أو التقنيات الذكية أو الإجراءات التنظيمية المتكاملة؛ وبفضل الترتيب والتنسيق الاستباقي المحكم بين مختلف الجهات الحكومية، تحقق موسم حج استثنائي اتسم بالانسيابية، والأمان، والروحانية، مما جعل من أداء المناسك تجربة إيمانية خالصة خالية من التعقيدات والمخاطر.
قد يتسائل البعض لماذا هذه المقدمة، والإجابة بالرجوع إلى موسم حج العام الماضي 1445هـ (2024م)، حيث برزت دعوات متعددة تسعى إلى ممارسة شعائر طائفية خلال مناسك الحج، وهو ما يتعارض مع مبادئ المملكة العربية السعودية الثابتة في تنظيم الحج وتوجيهه وفقًا للوسطية والاعتدال، وهو ما تعاملت معه المملكة العربية السعودية بحزم، مؤكدًة على أن الحج عبادة جماعية تهدف إلى توحيد المسلمين تحت راية واحدة، بعيدًا عن أي تفرقة أو انقسام.
من أبرز تلك الدعوات خلال العام الماضي دعوة مرشد الثورة الإيرانية خامنئي؛ لحجاج إيران وغير إيران، لجعل حج ذلك العام "حج البراءة!"، ومن المهم في هذا السياق أن نعرف: ما الذي كان يقصده خامنئي بالبراءة؟، وما المراد من ذلك؟، وهو ما سنركز عليه في هذا المقال لتصحيح المفهوم ومعرفة أبعاده..
مفهوم البراءة بين الحقيقة والتدليس
البراءة من المشركين: مصطلح مقتبس من آية كريمة في سوره التوبة منصوصها " وَأَذَ ٰنࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ یَوۡمَ ٱلۡحَجِّ ٱلۡأَكۡبَرِ أَنَّ ٱللَّهَ بَرِیۤءࣱ مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ وَرَسُولُهُۥۚ [سُورَةُ التَّوۡبَةِ: ٣]، والآية هذه لها سياقها وزمانها ومكانها، حيث نزلت في ختام حج السنة التاسعة للهجرة وكان حجًا اختلط فيه حجاج المسلمين بحجاج المشركين، الذين كانوا يطوفون عراة بمعية أصنامهم ومعبوداتهم، ثم نزلت الآية لتقطع دابر المظاهر الشركية في الحج وحول البيت الحرام، وعليه لم يحن موسم الحج في العام التالي، إلا وقد أصبح الحج خاليًا من تلك المظاهر الشركية؛ ولذا، لم يعلن خلاله أيَّة براءة، وذلك الحج هو الذي سُمّي بـ "حجًة الوداع"، وهي: الحجّة الوحيدة التي حجّها النبيُّ عليه الصلاة والسلام، ولو كانت البراءة فرضًا متكررًا في كل موسم، لكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - أول الممتثلين لأوامر ربه، لكن المسبّب انتفى بزوال مظاهر الشرك، وحققت براءة العام الماضي مبتغاها.
وزيادة في الدلالة على أنها كانت أمرًا مؤقتًا لظرف معين، بأنه لا أحد من الخلفاء الراشدين، أو من خلفاء وحكام الدول الإسلامية التي تبعتهم إلى يوم الناس هذا، قام بمنسك يسمى بـ "إعلان البراءة" في الحج.
إذن، فالبراءة هي آية قرآنية تُليت على حجاج العام التاسع الهجري (ولم تزل)، ولم يصاحبها أية مظاهر، بل تبعتها إجراءات حاسمة، لجعل الحج خاليا من رجس المشركين وطقوسهم الوثنية؛ لكن جهاز التشيع عمل على جعل "البراءة من المشركين" في تلك الآية مرتكزًا للتعبئة والتهييج؛ بهدف إقلاق أمن الدولة التي تشرف على الحج.
ولعل من أقدم المصادر الشيعية التي بلورت هذا المصطلح، وأعطته بعدًا توظيفيًا، هو العلامة المجلسي المتوفي بداية القرن الثاني الهجري، والذي فسّر البراءة من المشركين بأنها براءة من الخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية رضوان الله عليهم.
واستمر شحذ مصطلح البراءة؛ ليغدو عند الشيعة الإمامية ركنًا أساسيًا من أركان الحج، ومن لم يتبرأ فلا حج له؛ وفي كل مرة يتم تغيير دلالة البراءة حسب الظروف، لتصل عند الخميني إلى الصرخة المعروفة بالموت لأمريكا وإسرائيل، وهي في الحقيقة تستبطن عموم المسلمين، والحكام الذي لا يوالون الملالي، أو لا ينحدرون مما يسمى آل البيت.
إذن، اكتمل تحريف مفهوم البراءة على يد خميني وغدا مرتكزًا تأليبيًا نتج عنه عدة مآسٍ في مواسم حج سابقة، راح ضحيتها مئات من الحجاج الإيرانيين المغرر بهم، وحجاج من بلدان أخرى، بالإضافة إلى العشرات من شهداء الواجب، من منتسبي الأمن السعودي.
إن من تابع مواقع الملالي وقنواتهم خلال الحج؛ وجد أنهم كانوا يعِدُّون وليمة كبيرة، تحت عنوان البراءة؛ سيما وأن الطاغوت خامنئي أطلق على حج العام الماضي: "حج البراءة"؛ وانداحت إثره عشرات التناولات والتأصيلات تبرر هذا المدعَى، وتؤصل له، وتعتبره ركنًا ركينًا مما أسموه: "الحج الإبراهيمي"!.
وقد بدأ الحجاج الإيرانيون وأذرعهم، من حوثيين وحشد وغيرهم، برفع الشعارات بالتدريج في الأماكن المقدسة، كنوع من جس النبض لردة فعل السلطات السعودية؛ وتقضي الخطة أن يبلغ التصعيد ذروته يوم عرفة، أو ما وصفها خامنئي صحراء عرفة، وزاد أن كلف شخصًا يلقي خطابًا بالنيابة عنه في يوم عرفة، كشرارةٍ تنطلق بعدها مسيرات وفعاليات إطلاق البراءة.
لعل هناك من قد يقول: إذا كان الأمر مجرد شعارات فما المشكلة طالما أن السلطات السعودية لم يعهد عنها أنها حاولت تلوين الحج بلون واحد؟، بل، تترك لكل الطوائف الإسلامية أن تحج بطريقتها، فما الضير في جعل هؤلاء يتبرؤون كما يريدون؟
والحقيقة، أنه لابد من توضيح أن البراءة التي يريدها خامنئي، يعرفها الأمن السعودي حق المعرفة، ويعرفها الآباء الذين عاصروا المآسي في الثمانينات، بسبب دعوات البراءة، حيث ليست مجرد شعارات تقال بل تفخيخ خطير للحج والحجيج.
وصحيح أن سلطات الحرمين تحترم مذاهب ضيوف الرحمن، لكن السماح لجعل موسم الحج موسمًا للتظاهرات السياسية الجماعية، هو أمر يهدد أمن الحجاج وسكينة الحج "، ولا جدال في الحج"، ولو تم السماح لكل ذوي شعار أن يطلقوا شعارهم، وبشكل جماعي لأصبح الحج فوضى، وليس مؤتمرًا يثبت وحدة المسلمين، ومكانًا يتقرب فيه الناس لرب العالمين.
وأهم من كل ذلك، فإن البراءة الخمينية ليست مجرد إطلاق شعارات في الهواء بل عملٌ إرهابيٌ وتخريبيٌ عن سبق إصرار؛ والدليل على ذلك ما حدث في مواسم سابقة، وأبرزها في العام 1407هـ ـــ الموافق 1987م، حيث تطورت شعارات ما يسمى بالبراءة، من هتافات إلى أعمال شغب، أخرج فيه حجاج إيران: (الذين كانت نسبة منهم عناصر في الحرس الثوري) أسلحة يدوية، وحاولوا بعد ذلك منع بقية الحجاج من التوجه إلى وجهاتهم، كما اعتدوا على رجال الأمن وافتعلوا مشكلة أمنية كبيرة، تطورت إلى مواجهة مع الأمن، راح ضحيتها مئات من الحجاج ومن رجال الأمن.
بالتالي، فإن ما يسمى بالبراءة من المشركين ليس له في الأساس مستند شرعي يثبت إلزاميته بمواسم الحج، ولا سُنة توضح كيفيته، وكذلك ليس له سوابق على مدى التاريخ، بل إن سوابقه الوحيدة، هي عبارة عن مجازر معاصرة، من إنتاج إيران خميني؛ ولهذا فدعوة خامنئي لحج البراءة، هي دعوة فتنة لإقلاق أمن الحجيج، ويفترض مجابهتها من قبل كافة الدول المسلمة، حكومات وعلماء.
البراءة مِن مَن- بالضبط-؟
من المهم هنا أن نستكمل التعريفات اللازمة التي تعطينا الصورة الكاملة لدعوة خامنئي (حج البراءة)؛ فمثلما تعرفنا على ماهية البراءة وما هو مفهومهم لها، وكيف يريدون تطبيقها؛ من اللازم أن نعرف أمرًا آخر ذا صلة وهو: من هم المقصودون بالمشركين الذين يفترض البراءة منهم؟؛ والحقيقة أن المرء يصدم عندما يعرف أن لملالي التشيع مفهومًا خاصًا بـ (المشركين) يختلف عن المفهوم المعروف لدى أمة الإسلام؛ فالمشركون في نظرهم هم من يشركون أئمة آل البيت في الولاية والموحدون من يوحدونهم في الولاية!.
إذن، فالشرك لديه مدلول مغاير تمامًا لدى هؤلاء، ووفقًا لذلك المدلول، فعموم الأمة مشركون؛ وإذا أردنا التمحيص أكثر، فإن أكثر ما يغيظهم من المملكة العربية السعودية، أنها جعلت المشاعر المقدسة خالية من أية مظاهر وثنية أو شركية؛ وإلا فإن الشيعة بالمعنى العلمي المحض هم عبارة عن : حركة شركية وثنية سواءً في جانب الاعتقاد أو في جانب التعبد؛ فأما في جانب الاعتقاد فإن شركهم يتمثل في جعلهم الأئمة وسطاء بين العبد وربه، وهذا هو ذات الوظيفة التي كان يعشمها مشركو قريش من هبل والعزى ومناة الثالثة الأخرى!.
وبدقة متناهية يمكن القول: إن هؤلاء أعادوا إنتاج الشرك بطريقة مغلفة بغلاف الإسلام؛ وكلي يقين أنه إن كان ثمة من براءة يجب أن تعلن في الحج وغير الحج، فهي البراءة منهم بوصفهم أئمة الشرك ومادة الوثنية.
هذا في الجانب الاعتقادي، أما في الجانب العبادي فإن طقوسهم في أغلبها عبارة عن طقوس وثنية، والدليل على ذلك ما نراه في شعائر ما يسمونه الحج الأكبر الخاص بذكرى غدير خم، والذي يقام في العراق كل عام بعد ثمانية أيام عقب الحج بمكة.
ولديهم فقه مغلوط، وتأصيل شيطاني لهذا المنحى الشركي، يسمى :(مناسك المشاهد)، أي المشاهد المقدسة، أو العتبات المقدسة، فهم أدوات شرك حتى في عبادتهم، ونجد ذلك أيضا، في تقديسهم للقبور وفي صلاتهم على أحجار كربلاء.
وبالحديث عن كربلاء ينظر إليها هؤلاء أنها أهم من الكعبة، ويجسدون ذلك شعرًا:
ومن حديث كربلا والكعبة
لكربلا بان علوُّ الرتبة .
ويزعمون بأنه لن تقوم الساعة حتى تهدم الكعبة وينتقل الحجر الأسود إلى كربلاء، ولديهم سوابق في ذلك حيث أن قرامطة البحرين- قبل قرون- أخذوا الحجر الاسود، وأخفوه عندهم أكثر من 30 عاما. وإمعانًا منهم في التقليل من الكعبة فإنهم -مثلًا - يسمون النجف الأشرف مقابل الكعبة المشرفة!.
ما هي نظرتهم للحج؟
إذن، -وتبعًا لما سبق - فإن لديهم حجًا أهم في نظرهم من حج عرفة، وهو يوم الثامن عشر من ذي الحجة؛ ذكرى غدير خم، الذي يزعمون أن النبي عليه الصلاة والسلام أوصى فيه لعليٍّ بالولاية من بعده؛ وهو حجٌّ ضِرار يحشدون له قضّهم وقضيضهم ويعتبرونه الحج الحقيقي؛ وبالتالي، فإن ذهاب الكثير من ملاليهم إلى مكة ليس إلا من باب التخريب وليس من باب العبادة أو أداء الركن الخامس.
وتبعًا لما سبق لديهم رؤية عجيبة تجاه قبلة الصلاة، ففي العام 2009م أفصح (أحمد علم الهدى)، ممثل خامنئي في مدينة مشهد الإيرانية، أن القبلة يجب أن تتغير وتتوجه نحو مشهد وليس مكة!!! والملفت أن هذه الدعوة الجريئة نقلتها وكالة فارس الرسمية .. وكتبتُ -حينها- مقالين في صحيفة "الجمهورية" الصادرة بتعز، وموقع "نشوان نيوز" الإخباري مطلع نوفمبر 2009م أميط اللثام عن خطورة السكوت على مثل هذه الدعوة؛ ذلك أن مسالة القبلة من الأمور الأساسية في الدين الإسلامي، ومجرد التفكير في حرفها هو خروج سافر عن الملة.
هذا، وما خفي أعظم!، ولن أجامل في هذا الشأن مراعاة لمشاعر الفرق الباطنية، ولكنني أرى أن التشيع عندما تنزع عنه بعض القشور المذهبية البسيطة، فإن جوهره دين ضرار، يقوم بفك عرى الإسلام عروة عروة، أو هو -حسب تصنيف الأستاذ حارث الشوكاني - "التأويل المجوسي للإسلام"، وفي يقيني، أن التشيع وأساطينه امتداد شديد الوضوح والتطابق لتياري (الشرك، والنفاق)، وتحدثنا سابقًا كيف أنه امتداد لتيار الشرك، أما كونه امتداداً لتيار النفاق، فلأنهم جعلوا "التقية" تسعة أعشار الدين، والتقية هي عين النفاق.
ومهم التأكيد على أننا عندما نسوق مثل هذه التوضيحات، فإننا نقصد فيها التبيين لعامة المسلمين، والبسطاء من جمهور التشيع، أما أصحاب العمائم السوداء فلن نثبت لهم بطلان حجتهم إذ هم أدرى ببطلانها؛ حتى أن المعمم منهم قد يفتري أحاديث وينسبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، في جلسة واحدة في حسينية مليئة بالنحيب.
أمن الحج خط أحمر:
في غمرة هذا كله، نحيي الروح اليقظة، والفهم العميق، والاستعداد الكبير، للمملكة العربية السعودية؛ بقيادتها، وأمنها، وجيشها، وكل مواطنيها، حيث كانت هناك درجة عالية من التأهب، والجميع يردد عبارة واحدة: "أمن الحج خط أحمر، لن نتهاون فيه، ولن يتم تجاوزه".
في المقابل مطلوب من علمائنا ألا يكتفوا بالفتاوى الرمزية الدبلوماسية، في تعرية هذه الدعوات الشريرة؛ لأن مداهنة هذا الباطل يجعله يتجرأ مرة أخرى، ويعبث ويعيث.
لا خوف على حجاج بيت الله، مهما كان الشر الذي يريده هؤلاء ممن يدعون البراءة من المشركين؛ ذلك أن السلطات السعودية ستكون بالمرصاد، وهي جاهزة جدًا، ولديها خبرة في التعامل مع المخاطر بكافة أنواعها؛ ولعل في مثل هذه الدعوات التخريبية الصادرة من خامنئي، جرس إنذار مهم، بعد أن عشنا سنوات، ظننا فيها أن الملالي ملوا هذه اللعبة السخيفة، وصاروا يلعبون في مربعات أخرى، لكن يأبى الله إلا أن يفضحهم.
مر الموسم بسلام، لكن، مهم ألا تمر مثل هذه الدعوات دون تفنيد، من علماء ومفكري وزعماء الأمة؛ "وقفوهم إنهم مسؤولون".
سيذهب زبدهم جُفاءً، ويبقى صوتُ المسلمين يجلجل في مسامع الأرض: "لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون"؛ ويا لها من براءة!!.