في اليمن، لا تحتاج إلى كثيرٍ من التحليل، ولا إلى عدسةٍ مكبّرة، كي تكتشف الحقيقة: نحن أمام دولتين، لا يفصل بينهما سوى الحياء السياسي… أو ما تبقّى منه!
خذ - مثلًا - أسعار الصرف هذا الأسبوع:
في صنعاء، حيث تسيطر سلطة الانقلاب منذ عام 2014، يتمشّى الدولار الأميركي بتواضعٍ بين 535 و538 ريالًا يمنيًّا.
أمّا في عدن، مقرّ الحكومة المعترف بها دوليًّا، فهو يركب سيارةً فارهة، ويقفز إلى ما فوق 2500 ريال، بكلّ نشوة السيادة والانفلات النقدي.
الريال السعودي كذلك مصابٌ بازدواجية المواطنة، بسعرٍ في صنعاء، وآخر في عدن؛ لا يربط بينهما إلّا صورته على الورقة.
ثمّ تأتي أسعار الذهب لتُكمل المشهد:
في صنعاء، يُباع الجرام عيار 21 بـ47 ألف ريال،
وفي عدن، يقفز إلى 240 ألف ريال!
حتى الذهب — المعدن الأشدّ صمتًا في هذا العالم — لم يسلم من سياسة: “كُلٌّ يبيع حسب هواه”.
لكن، خلف هذه الأرقام مأساةٌ إنسانيةٌ ثقيلة.
فمنذ عشر سنوات فقط، كان الدولار يُشترى بـ220 ريالًا، واليوم تجاوز — في عدن — 2500 ريال!
بمعنى آخر، فقد الريال اليمني أكثر من تسعين في المئة من قيمته، وانهارت معه القدرة الشرائية للمواطن، الذي أصبح دخله الشهري لا يكفي قوتَ يومين.
وقد يظنّ البعض أن انخفاض سعر الصرف في صنعاء يعني حالًا اقتصاديًّا أفضل، لكن الحقيقة أكثر مرارة:
فرغم أن الدولار هناك أرخص بكثير، فإن أسعار السلع أعلى، والغلاء أشدّ فُحشًا، والرواتب أندر من المطر في موسم جفاف.
فالفارق بين سعر العملة لا يعكس بالضرورة فارقًا في مستوى المعيشة، بل قد يكون العكس تمامًا.
المأساة وصلت حدًّا لم نعهده من قبل؛
في عدن، خرجت النساء متظاهرات، يرفعن أصواتهن في وجه الغلاء، مطالباتٍ بحقٍّ أبسط من الخبز والماء.
وفي تعز، بكت النساء على خوفٍ وجوعٍ طال صمتَ الرجال الذين أنهكهم الفقرُ، وأسكتهم القهر.
الأسواق مشتعلة، والأسعار تتضاعف، والرواتب — إن وُجدت — راكدةٌ كجثّةٍ في مجرىً اقتصاديٍّ مسموم.
المواطن اليمني لم يَعُد يسأل: “بكم الدولار؟”، بل يسأل: “كم بقي من كرامتي قبل أن أضطرّ إلى بيعها؟”
الموظف في صنعاء يتسلّم نصفَ راتبٍ، كلَّ نصفِ سنة، وكأنّ سلطة الانقلاب تقول له: “كُلْ قليلًا، واصبر كثيرًا!”
وفي عدن، يتسلّم راتبه كاملًا… لكنه لا يساوي ربعَ ثمن حاجاته الأساسية.
فأين الفرق إذًا؟ هو تمامًا كالفارق بين أن تغرق في البحر، أو تحترق في الصحراء!
السؤال هنا لم يَعُد سياسيًّا بقدر ما هو إنسانيٌّ وأخلاقيّ:
أيُّ ذنبٍ اقترفه هذا الشعب، ليتحوّل إلى ضحيةٍ دائمةٍ لصراع سلطتين؟
سلطةٌ انقلابيةٌ مسلّحةٌ في صنعاء، تُدير اقتصادًا مغلقًا باسم “الصمود”،
وسلطةٌ معترفٌ بها دوليًّا في عدن، تُدير اقتصادًا مفتوحًا على كلّ أبواب الفوضى، والعجز، والفساد.
كلّ سلطةٍ تتحدّث باسم الوطن،
وكلّ جهةٍ ترفع شعار “الإنقاذ”،
لكنّ المواطن وحده يدفع الثمن — في السوق، وفي الصيدلية، وفي محطة الوقود، وفي كيس الطحين.
واليمن؟
لم يَعُد في حاجةٍ إلى مؤتمر حوار،
بل إلى مرآةٍ صادقةٍ، تقف أمام الجميع لتقول: “أنتم لا تحكمون بلدًا… بل تقاسمتم أنقاضه.”
اليمن اليوم لا يعيش وحدةً هشّة، بل انفصالًا فعليًّا، مؤجَّلَ الإعلان.
انفصالٌ بملامحَ واضحةٍ:
عملةٌ واحدة، بقيمتين…
حكومةٌ شرعيةٌ عاجزة، وسلطةُ أمرٍ واقعٍ بلا شرعية،
وشعبٌ أنهكته الحرب، والجوع، والانتظار، وانخفاضُ سقفِ الأمل.
والأرقام — وحدها — لا تكذب:
الدولار تضاعف أكثر من عشر مرّاتٍ خلال عقدٍ واحد،
والريال اليمني بات مجرّد ورقةٍ تذكاريةٍ من زمن الدولة.
فهل ننتظر التغريدة التي تقول:
“نُعلن تأسيس الدولة… وفق مقتضيات المرحلة!”
أم سنظلّ ندير الانقسام بلباقة، كما تُدار المناسبات الاجتماعية… بالمجاملة؟!