آخر تحديث :الأحد-08 يونيو 2025-12:43ص

قراءة سيميائية جمالية في وجه من وجهين

الأحد - 08 يونيو 2025 - الساعة 12:39 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب



Goedemorgen mevrouw

صباح الخير سيدتي


Goedemorgen meneer

صباح الخير سيدي

تلك هي صيغة التحية الصباحية في هولندا. أول عبارة يمكنك تعلمها. تقال بنبرة ودودة ومشاعر إيجابية مصحوبة بابتسامة مفعمة بالحيوية والتفاؤل. ألكسندرا ساندير ( Alexandra Sonder ) سيدة خمسينية أنيقة. أرها كل صباح منهمكة على جهاز اللابتوب، على طاولة في زاوية مواجهة من بهو فندق فليتشر الهادىء. وجودها في تلك الزاوية المنتقاة بعناية؛ تمكنها من رؤية كل من يدخل أو يخرج من الهوتيل. حضورها الصباحي اليومي يضفي على المكان هيبة واحترام العمل والنظام العام المقدسان عند الهولنديين كما يقدس صلاة الجمعة. ( دعه يعمل دعه يمر) شعار الليبرالية المدني الذي صاغه الفيلسوف الإنجليزي جون لوك ( 1632–1704) صاحب كتاب التسامح الديني والمجتمع المدني؛ وجدته يسري في هولندا مسرى الروح من الجسد. هنا لا احد يوقفك في الطريق أو يسألك من أنت؟ أو من اين انت؟ وماذا جاء بك ؟ وغيرها من تلك الاسئلة الفضولية الشائعة في المجتمعات العربية. هنا كل شخص مشغول بعمله فقط وهكذا كانت السيدة الهولندية التي لفتت انتباهي بانضباطها الصباحي اليوم الدقيق.وحينما تغيب تتركها فراغا موحشا في ذات الزاوية يدفعني إلى السؤال عنها. مع مرور الأيام عرفت إنها مديرة الفندق وإن آلن وروزان بنتيها. كن يقفن في بوفية تناول الطعام ويشرفن على توزيعه على المقيمين ( الإفطار والغداء والعشاء) بالتعاون مع أخرين من الرجال والنساء العاملين في الهوتيل بما في ذلك السكرتيرية. آلن ٢٣ عاما مهندسة الالكترونية بارعة ودائما ما إلجاء اليه لتضبط اللابتوب أو الجوال أو الساعة الرقمية. وروزان ذي ٢٠ عاما ادارية صارمة تبدو في عملها مسؤليتها أكبر من عمرها. تصلح وزيرة للداخلة لا تساوم أبدا في إنفاذ النظام والقانون على الجميع. قبل أيام أرتني السيدة المديرة آلن وروزان في وجه واحد. صورة في جوالها بالأبيض والأسود. وانا اتأملها تذكرت محاضرات الاستاذ الالماني باتن هوفمان في فلسفة الجمال بجامعة عدن قبل أكثر من ثلاثين عاما مضت وتلك هي قيمة الذاكرة التي تحتفظ بكل ما مر بنا من خبرة ومعرفة حتى يأتي وقتها. طبعا في البيئات الحربية الصراعية تختفي التأملات الجمالية. تلك الصورة الذكية أيقظت في ذاكرتي خبرة ومعرفة ذاتية في مجال فلسفية الجمال والنقد الجمال؛ مادة كنت اقوم بتدريسها لطلاب قسمي الفلسفة والفنون الجميلة بجامعة عدن. فكيف يمكن النظر إلى صورة الوجه الواحد المكون من وجهين للاختين آلن وروزان؟ أكدت الدراسات العلمية غياب التمثال الميكانيكي بين شطري الوجه البشري؛ فالجانب الأيسر يختلف في البنية العضلية، وتوزيع التجاعيد، وحجم العين، بل وحتى في تعبيراته الانفعالية. وقد أثبتت دراسات في علم الأعصاب أن الجانب الأيسر من الوجه – المرتبط بالدماغ الأيمن – أكثر تعبيراً وانفعالاً، بينما الجانب الأيمن أكثر تحفظاً وتحكماً.وهنا يستحسن استحضار النظرية الجشطالتية التي ترى إن (الكل هو أكبر من مجموع أجزأه) فعندما ننظر إلى وجه إنسان، لا نرى أجزاه ( العين، الفم، الخد، الأنف، الجفن، الأذن، العنق ، الجبين . الخ من التفاصيل والمكونات الصغيرة للوجه الإنساني الذي يحمله كل شخص حي. بل ننظر اليه نظرة واحدة، كـ”كلٍّ متكامل” فجمال الوجه لا يكمن في كل جزء بمفرده، بل في كيفية تناغم الأجزاء داخل الكل. قد تكون العين مثالية، لكن إن لم تنسجم مع الفم أو الحاجب، فإنها تفقد تأثيرها الجمالي. هذا ما يجعل بعض الوجوه ساحرة، رغم أنها لا تفي بالمعايير الكلاسيكية للجمال: لأن التناسق الكليّ فيها حيّ، نابض، ومتوتّر بشكل جذّاب. فالوجه الإنساني – بكل اختلافاته الطبيعية – أقرب إلى الجمال من أي صورة مصطنعة تحقق التماثل الهندسي. تذكرت إن الإستاذ باتن هوفمان كان يقول لنا إن جانبي كل وجه إنساني لا يتشابهان أبدا بل ثمة اختلافات عدة بينهما يمكن رؤيتها بالعين المجرة إذ ركزنا في وجوهنا ونحن أمام المرآة. كان يضع حد يده على منتصف انفه وجبينه ويقول لنا شاهدوا شطري وجهي ( اليمين واليسار) هل وجدتم اختلافات؟ وفعلا وجدنا اختلافات واضحة حينما نفقنا في تأمل وجهه. وحينما خلوت بنفسي في غرفتي السكنية نظرت إلى وجهي وبدأ لي وكأنني اراه لأول مرة في حياتي إذ وجدت وجدت اختلافات دقيقة بين العينيين وبين الخدين وفي البشرة والتجاعيد وغيرها إذ إن الوجه يسجل خارطة الثنائية الكبرى التي تحكم الوجود البشري: العقل والعاطفة، التجلي والتخفي، الهوية والتغيير وقد مثل الوجه الإنساني عبر التاريخ، مركزا للهوية والتمثيل الجمالي والاجتماعي والنفسي والثقافي تتقاطع فيه الأبعاد البيولوجية والفلسفية والجمالية والسيميائية. وحسب النظرية الجشطلاتية في التحيل النفسي، لا تكمن جمالية الشكل في التماثل الميكانيكي بين اليمين واليسار، بل في التناغم الديناميكي الذي يخلقه هذا الاختلاف داخل الكلّ المدرك والاختلافات الخلقية الدقيقة بين شطري الوجه اليمين واليسار، ليس عيبًا يجب تصحيحه، بل هو تجلٍّ للتناغم غير المتناظر” – ذلك الذي يفتح الباب للشعور، وللدهشة، ولإدراك الجمالي المتجسد في الاختلافات أكثر من التطابقات الميكانيكية. وهكذا يمكننا النظر إلى آلن ورزان من منظور فلسفة الجمال. ما يثير دهشة المتأمل في وجهيهما ليس فقط هذا الشبه الجيني، بل ذاك التوتر الفلسفي الدقيق بين التناسق والاختلاف، بين التماثل الظاهر والتمايز الفردي الذاتي فهما لستا توأمان. وهكذا وجدت إن الصورة التي تجمع بين وجهي الأختين الهولنديتين آلن (23 عامًا) وروزان (20 عامًا)، العاملتين في إدارة فندق Fletchr بضيعة دينكلورد، تقدم فرصة فريدة للتأمل في الجماليات البصرية من خلال عدسة التناسق والاختلاف. إن ملامح الأختين توحي بإجابة مركّبة: فبين انحناءة ابتسامة آلن ونظرة روزان البريئة، ثمة تناغم لا يُبنى على التطابق والتكرار الميكانيكي بل على تنوع الأصل واختلاف الملامح. كأن الجمال هنا لا يتجلى في التماثل المتطابق، بل في التناغم المتمايز ، ذلك الذي يُشبه حوارًا موسيقيًا بين آلتين مختلفتين تعزفان اللحن ذاته بأصوات متباينة. إن التأمل في وجه آلن وروزان ليس تمرينًا في فهم التماثل والانسجام ، بل دعوة فلسفية إلى التأمل في كيفيات ظهور الجمال في التنوع، وكيف أن التناغم قد يكون أكثر إثارة حين لا يكون تكرارًا. الأختين تشتركان في ملامح أساسية تعكس جذورهما العائلية: الشعر الأشقر الطويل ذو التموجات الطبيعية، والبشرة الفاتحة، والعينين الواسعتين ذات اللون العسلي. هذا التناسق ليس سطحيًا فحسب، بل يحمل دلالة رمزية عن الروابط العائلية التي تجمع بين الأختين. رغم التشابه الواضح، هناك اختلافات دقيقة تضفي طابعًا فرديًا على كل وجه. النصف الأيسر، الذي يُفترض أنه يمثل آلن (23 عامًا)، يظهر ابتسامة واسعة تعكس شخصية واثقة ومرحة ومتفائلة . كما لو أن آلن تتفاعل مع العالم بثقة وجرأة. في المقابل، النصف الأيمن، الذي يُفترض أنه يمثل روزان (20 عامًا)، يظهر تعبيرًا أكثر هدوءًا وربما تأملًا حذرا . العين اليمنى تبدو أكثر تركيزًا، وكأنها تنظر إلى شيء بعيد، مما يوحي بشخصية أكثر قلقا وحساسية وصرامة. هذا التوازن بين الحيوية والهدوء ، والثقة والحذر، الأريحية والصرامة يذكّرنا بمفهوم “الين واليانغ” في الفلسفة الصينية، حيث تتكامل الأضداد لتشكل وحدة متناغمة. الأختان آلن وروزان، من خلال تشابههما اللافت وتفاعلهما المشترك، تقدمان رؤية سيميائية جمالية تتمحور حول التشابه والاختلاف والوحدة والتنوع والتناغم والانسجام. وهناك رموز أخرى في الصورة يمكن قراءتها من المنظور السينمائي منها: ملابس العمل (القمصان الزرقاء وأيقونة الفندق والجينز)، بما تحمله من دلالة سيميائية تعبر عن التعاون والانتماء الجماعي للمؤسسة وفلسفيا، يمكن ربط ذلك بأفكار جان-جاك روسو عن العقد الاجتماعي، حيث تتنازل الأفراد عن جزء من فردانيتهم لصالح الجماعة، مما يعزز الشعور بالوحدة والانتماء والتضامن أما القفازات السوداء فترمز إلى الجدية والعمل المنظم والحرص على النضافة ، وهي قيم ترتبط بالثقافة الهولندية العملية.