آخر تحديث :السبت-27 يوليه 2024-10:02ص

في مخاطر الثأر المنفلت من العقال بوصفة مؤسسة الانتقام

الإثنين - 27 مايو 2024 - الساعة 11:51 م

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


في مخاطر الثأر المنفلت من العقال بوصفة مؤسسة الانتقام

من وحي ميثاق شرف الصبيّحة لإنهاء الثأر القبلي

( بؤركت جهودكم ونتمنى من السطلة الرسمية
دعم هذه المبادرة الشعبية وتعزيزها وحمايتها)

لاريب إن ظاهرة العنف كمؤسسة تاريخية تضرب بجذورها في الأعماق البعيدة لكينونة المجتمع البشري عامة ومجتمعنا العربي الإسلامية تحديداً، إذ لا يزال العنف يمتلك حضورا طاغيا وعنيفا في حياتنا الراهنة وهذا ما نلاحظه كل يوم من احداث فضيعة ، قتل واغتصاب واختطاف وسطو وسرقة ونهب وخصومات وضغائن وانتقام. الخ . وربما كان الثأر من بين جميع مظاهر العنف أخطرها على الاطلاق ، ذلك لان (الثأر الحر ) يشكّل حلقة مفرغة وعملية لامتناهية ولا محدودة ، من ديمومة العنف والعنف المضاد؛ ففي كل مرة ينبثق منها من نقطة ما في الجماعة مهما كانت صغيرة ، يميل الى الاتساع والانتشار ( كالنار في الهشيم ) الى أن يعم مجمل الجسد الاجتماعي برمته، ويهدد وجوده بالخطر. وهذا هو ما نراه كل يوم في اليمن الذي عجزت نخبه السياسية عن تأسيس دولته العادلة - اقصد الدولة بوصفها مؤسسة المؤسسات الوطنية الجامعة هي البيت السياسي المشترك للموطنين القاطنين في مكان وزمان متعينيين بينما السياسية هي اللعبة التي يمارسها سكان البيت في الصراع على عناصر القوة؛ السطلة والثروة والوظيفة العامة والجاه والتمثيل . الخ. فاذا لم تأسس الدولة على أساس تعاقدي دستوري مدني يكفل حق متساوي لجميع المتعاقدين في العيش الكريم والوصول والحصول على الفرص فمن العبث الحديث عن السياسة ونتائجها.
اليمنيون عجزوا عن تأسيس بيتهم السياسي المشترك (الدولة)فصاروا يتصارعون في الشارع على الجثة المتعفنة. وصراع الشوارع لا حكم عليه ولا معيار له. حرب الجميع ضد الجميع!وقد كتبت في ذلك مقالات عدة منها ( اليمن الذي لم تفهمه نخبه بعد) وبسبب غياب النظام السياسي الجامع ظلت مؤسسة الثأر التقليدية الجاهلية حية وفاعلة السياسة تؤثر في حياة الناس بأشد مما تؤثر فيهم تقلبات الظروف الطبيعية( الاحوال المناخية التي منها: الرياح والحر والبرد والخصب والجدب والعواصف والفيضانات والإعصار والزلازل والبراكين والأوبئة حسب بول فاليري. وما حدث في اليمن اليوم وفي غيرها من البلدان العربية يعد أسوأ بما لايقاس مما يمكن أن تفعله أشد الكوارث الطبيعية فتكا . فما أخطر السياسية وما أفدح شرورها إذ تركت تمشي على حل شعرها؟! ربما كان الفرق بين الكوارث الطبيعية والشرور الاجتماعية يكمن في أن الطبيعية لا تفرق بين الكائنات الحية وغير الحية التي تفتك بها بينما الشرور الاجتماعية والسياسية تستهدف ضحاياها بمبررات ايديولوجية عبثية لم ينزل الله بها من سلطان. الطبيعية تعيد الإنسان إلى حالته البيولوجية الأولى بوصفه كائنا أرضيا بين الكائنات الأخرى التي تقع على درجة متساوية من الظلم والضرر لأنها ببساطة بلا قلب أو 👀 بينما السياسة والايديولوجيا تختار ضحاياها بقسوة لا مثيل لها بل إن السياسة تؤثر في حياة الناس تأثيرات بعيدة المدى وفادحة النتائج ويبلغ تأثيرها الغائر الطبقات العميقة للذاتية الاجتماعية والفردية. ولسنا بحاجة إلى التذكير هنا بمدى ذلك الأثر الفاجع الذي أحدثته شرور السياسية في حياة مجتمعاتنا العربية الراهنة والحالة اليمنية هي أحد أبرز تجليات تلك الكارثة السياسية. إذ إن أقل عنف يمكن أن يدفع الى تصاعد كارثي لا سيما في مجتمعنا المساواتي وفِي ظل غياب الدولة والمؤسسات العامة ، فنحن جميعا نعرف إن مشهد العنف له شيء من (العدوى ) ويكاد يستحيل احيانا الهروب من هذه العدوى ، فاتجاه العنف يمكن بعد التمحيص يظهر التعصب مدمرا كالتسامح ، وعندما يصبح العنف ظاهرا ، يوجد إناس ينساقون اليه بعفوية وحماسة لاشعورية، ويوجد أخرون منهم يعارضون نجاحاته ولكن هولاء المعارضون السلبيون هم ذاتهم غالبا الذين يتيحون له الفرصة والشيوع والهيمنة. ويشبه رينيه جيرار في كتابه المهم ( العنف المقدس ) يشبه العنف في المجتمعات التقليدية الثأرية كمجتمعنا الراهن ( باللهب الذي يلتهم كل ما يمكن أن يُلقي عليه بهدف إطفائه).
لقد ادرك ابناء الصبيحة الكرام -الذين يتسمون بالصدق مع أنفسهم والاخرين- ادركوا خطر سقوط المؤسسات العامة وعودة الحياة الاجتماعية إلى الحالة الطبيعية ( حرب الجميع ضد الجميع) المتمثلة في المؤسسة القبلية الثأرية الجهنمية التي اذاقوا مررتها مثلهم مثل غيرهم من القبائل اليمنية الشرسة ففكروا بايجاد حلا لظاهرة الثأر المرهقة فانحروا ميثاق الشرف الجدير بالاهمية والقيمة والاعتبار إذا جاء فيه ما يلي"

وبحمد الله فقد توفق الجميع من مشائخ ووجهاء الصبيحة في استكمال عملية التوقيع على الوثيقة والمكون من 11 فقرة كالاتي:

(( 1/ دم الإنسان وماله وعرضه حرام ، وأن الوسيلة الوحيدة لحل الخلافات عبر الحوار والاحتكام للشريعة الإسلامية والقوانين والأعراف المتوارثة في مجتمعنا والوصول إلى إجماع الرأي من اجل السلم الاجتماعي.

2/ الابتعاد عن التخوين والتحريض وسوء الضن والوقوف صفاً واحداً ضد المعتدي سوى كان من خارج أبناء الصبيحة او من بين مجتمعها بمختلف مكوناتها دون التفريق بين فئات المجتمع وأن أبنائها أمه واحدة لا فرق بين أسود وابيض.

3/ أن الصبيحة مجتمع ذات هوية راسخة ضاربة في عمق التاريخ تقبل بالشراكة بين اطياف مجتمعها وخارجه.

4/ أن الصبيحة كتله جغرافية واحدة سواحل وجبال وهضاب وصحراء ووديان وجزر وابحار ويلتزم الجميع بالحفاظ على هويتها والدفاع عن خصوصيتها وسيادتها وعدم اثارة النعرات الجاهلية والطائفية والمذهبية التي تؤدي إلى تمزيق المجتمع .

5/ على أن يكون مجتمع الصبيحة ومصالحها مقدمة على كل التوجهات والمكونات الحزبية والعمل بالنهوض بما يلبي طموحات ابنائها.

6/ لا يمثل إرادة الصبيحة غير ابنائها ولا سيادة على اراضيهم لغيرهم ، ويلتزم الجميع على تمكين أبناء الصبيحة بحسب الاستحقاقات .

7/ البراءة من كل الخارجين عن القانون او المنتمين للتنظيمات الإرهابية والمروجين للمخذرات والاشياء الضارة وعدم الوقوف معهم والدفاع عنهم وايوائهم .

8/ نصرة المظلوم والدفاع عنه وإلا يكون الطارف غريم وتصديقاً لقول الله ( ولا تزروا وازره وزر اخرى) صدق الله العظيم.

9/ أن يكون هذا العهد فيما ذكر سابقاً مقدساً امام الله وعهد مهدوم مردوم لا رجعة فيه إلى صراب الحيود مادام الله يعبد والماء يورد والغراب أسود والناس ركع وسجد والصلاة على محمد على عدم سفك الدماء وعدم نهب الأموال والحقوق وغير ذلك ، ملتزمون بنشر الأمن والأمان والسلام ولا نقض لهذا الميثاق والعهد مراقبة الله تعالى في عهدنا .

10/ بموجب هذا العهد اي شخص يرتكب اي جرم او حادث بعد هذا الميثاق يعتبر حادث جنائي فردي يتحمله الشخص نفسه ولا يتم ايوائه او التستر علية ، ويسلم للقضاء او القانون لقول الفصل فيه وعلى جميع الموقعين الوقوف ضده.

11/ على هذا عهدنا ومن خان لا كان والله حسيبة ورقيبه)).
إننا إذ نشد على يدي ما انجز هذا الوثيقة الهامة نحيي ابناء الصبيحة الكرام على هذا
الاستجابة الفعالة لهذه الوثيقة التاريخية ونتمنى أن تحذوا كل القبائل اليمنية حذوكم. ولما كنت اعرف ماذا يعني الثأر ومخاطره فهذا الوثيقة التي انجزها ابناء الصبيحة لها معاني كبيرة في نظري.
غير إن هذا الجهد الشعبي الأهلي يحتاج إلى دعم وتعزيز قوي وفوري من السلطة الرسمية في محافظة لحج والحكومة الشرعية ذلك لاعتقادنا بأن الثأر بوصفه مؤسسة تقليدية راسخة في المجتمع اليمني ليس بالأمر الهين الذي يمكن علاجه بمجرد تشكيل لجان صلح، أو توقيع عهود بل هو مشكلة عسيرة ، وبنية معقدة التركيب ، وفي سبيل فهمه وتفكيك بنيته، لابد من تسليط الضوء والبحث العميق في البنية الثقافية الكلية لمجتمعنا التقليدي والشروط التي تجعل من هذا السلوك المدمر قابلاً للوجود والحضور والازدهار والسؤال هنا: ليس ماذا يفعل الناس ويقولون ويفكرون؟ بل هو لماذا يفعلون ما يفعلونه ويعتقدون ويقولون ما يقولونه في سياق ممارستهم اليومية الحي المباشرة الفورية؟! وذلك لان العنف والثأر يوجدان في صميم الطقوس والأساطير والقيم والمعتقدات التي تشكل حياة وسلوك الناس في بلادنا ذات البنية الاجتماعية القبلية ، فما هو الثأر ؟ وكيف يمكن لنا اجتثاث عروقه الشريرة ؟ يرى الباحث الأنثروبولوجي (( لويس مير )) إن للثار معاني متعددة أهمها :

1. العداء الناجم عن اعتداء .

2. شعور المعتدى عليه بوجوب الثأر لنفسه .

3. شعور أفراد جماعة المعتدى عليه أن الاعتداء قد وقع على كل فرد من أفرادها ،لذلك يتوجب على كل فرد فيها أن يثأر لنفسه .

4. إمكانية تكرار الاعتداء باعتداء مقابل هذا معناه إن الثأر مرتبط ارتباطا حميما بالبينة الواقعية لحياة الإنسان في المجتمعات القرابية فالفرد في مجتمعنا لا يتمتع بشخصية فردية متميزة أو كيان شخصي قانوني مستقل ، بل يتصرف ويعمل وينظر أليه على إنه عضواً أو جزءاً من جماعة معينة سواء كانت هذه الجماعة قبيلة أو قرية أو منظمة سياسية الخ ….

فالقاتل حين يقتل شخصا ما في مجتمعاتنا العربية التقليدية فإن عمله لا يعتبر جريمة في نظر المجتمع ككل ، بل جريمة موجهة إلى الوحدة الاجتماعية التي ينتمي أليها القتيل ، فلا ينصب الأهتمام أكثر ما يكون على المذنب وإنما على الضحايا الذين لم يثأر لهم .
وبالنتيجة فإنه للعمل على وقف الثأر كما للعمل على وقف الحرب لا يكفي إقناع الناس أن العنف كريه وخطير ومدمر ذلك لإنهم مقتنعون بأنهم يصنعون لانفسهم واجبا للثأر منه. إذ أن تضامن الجماعة هنا هو القانون الأعلى فما دام لا يوجد جهاز ذو سيادة ومستقل كي يحل محل المعتدى عليه وكي يوقف الثأر ، فإن خطر التصاعد اللامتناهي يستمر . ان الجهود لمعالجة الثأر وتحديده وايقافه تبقى وقتية وعابرة ، بدون نظام قضائي عادل يحتويه من جدوره وستمضي سنين طويلة قبل أن يكشف الناس إنه لا يوجد فارق بين مبدأ العدالة العامة والقضاء المستقل ومبدأ الثأر التقليدي الخاص. فالمبدأ هو نفسه النافذ في الحالتين؛ (مبدأ التبادل العنيف بين الجريمة والعقاب) كما يقول رينيه جيرار . وهذا المبدأ أما أن يكون عادلاً وتكون العدالة آنئذ مائلة في عقاب المجرم وأما أن لا توجد أي عدالة عامة وهنا يشبه الثأر العام الثأر الخاص ولكن يوجد فارق ضخم بين الثأرين على المستوى الاجتماعي : الثأر الذي لا ثأر له ، أي ثأر القضاء العادل وجهاز السلطة العام الذي يتكفل بآخذ القصاص العادل من المجرم فالعملية بذلك تنتهي ويسود الأمن والسلام ، وحينها يكون خطر التصعيد العنيف أسُتبعد الى الأبد . والثأر اللا متناهي هو الثأر التقليدي الخاص الذي يريد أن يكون انتقاما وكل انتقام يستدعي انتقامات جديدة ، ومضاعفة الانتقامات هي المغامرة المهلكة التي تهدد وجود وسلام واستقرار المجتمع كله ، ولهذا فان الثأر يشكّل في أي مكان من دول العالم المتحضر موضوع تحريم صارم جدا .

هكذا إذا كان الثأر عملية لانهاية لها كما نعرف بالتجربة الحياتية فلا يمكن أن نطلب منه احتواء العنف ، وفي الحقيقة هو ما يجب احتواءه ، ولا توجد أي وسيلة ناجحة لذلك غير المؤسسة القضائية أي الدولة والقانون ، المتعارف عليها جميع المواطنيين الذين يخضعون للسلطتها بقناعتهم .
أن النظام القضائي العادل ، لا يلغي الثأر بل يعقلنه ، فلا فرق بين نظام قضائي عادل ومبدأ الثأر فالإصرار على عقاب المجرم ليس له من معنى أخر غير الأخذ بالقصاص بحق الضحية من المجرم المذنب .

فالسلطة القضائية التي وكلت من الجميع بشكل كامل والتي ليست شيئا أخر سوى ذاتها ولاتعود إلى شخص ولا تنحاز إلى جماعة ، هي وحدها التي يجب أن تحتكر الثأر احتكارا مطلقا ، وهي وحدها القادرة على خنق الثأر ولجم شهوة العنف. فهل عرفنا ألان البؤرة التي تتطّلع منها رؤوس الأفاعي والشرور الاجتماعية و منها العنف الثأر والثأر المضاد؟ إنها العدالة الغائبة بسبب غياب الدولة والقانون. الم يحن الاوان لتفعيل عمل المؤسسات القضائية والأمنية وأعلى شأن القانون الذي يجب أن يكون سيد الجميع بلا استثناء وبلا قلب ولا عيون.

من صفحة الكاتب على موقع فيس بوك