آخر تحديث :السبت-15 يونيو 2024-11:45م

الفن والدين.. مسيرة حياة

الأربعاء - 22 مايو 2024 - الساعة 04:25 م

د. ثابت الأحمدي
بقلم: د. ثابت الأحمدي
- ارشيف الكاتب


المتأملُ في مسيرة الدين ــ أي دين ــ من جهةٍ، والفن من جهةٍ أخرى يجدهما متلازمين؛ بل وقرينين منذ ظهرت الأديان لأول مرة وحتى اليوم، فبينهما توأمة تاريخية لا تنفك.
وإلى هذه الجزئية أشار المفكر الإسلامي المعاصر علي عزت بيجوفيتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب؛ حيث قال: الدين والأخلاق والفن فرع سلالة واحدة انبثقت بفعل الخلق الإلهي. وهو يشير إلى نقطة مهمة هي ارتباط الفن بالدين من اللحظات الأولى كتعبير عنه، قبل اللاهوت الذي ساد من بعد؛ فالدراما ــ كما يقول ــ ذات أصل ديني، سواء من ناحية الموضوع، أو من ناحية التاريخ، كانت المعابد هي المسارح الأولى بممثليها وملابسها ومشاهديها، وكانت أوائل المسرحيات الدرامية طقوسًا ظهرت في معابد مصر القديمة منذ أربعة آلاف سنة مضت.

وقد انبثقت الدراما الإغريقية من أغاني الكورال في تكريم الإله "ديونيسوس"، وكانت المسارحُ تقامُ بالقرب من معبده، وكان العرضُ المسرحي يستمر خلال الاحتفالات المتعلقة بعبادة ديونيسوس كجزء من الخدمة الدينية.. لقد كانت الرسوم الأولى والتماثيل والأغاني والرقصات جزءا من الشعائر، وإنما انفصلت مؤخرًا عن العبادة، وأصبحت توجد مستقلة، فعندما رسم الإنسان البدائي الحيوان الذي يعتزم صيده كان هذا نوعًا من العبادة، صلوات لكي ينجح في مهمته، وكان الهنود الحمر يرسمون خطوطا ملونة مختلفة على الرمال خلال احتفالاتهم الدينية، وكانت هذه الخطوط جزءا مكملا للشعائر. أ. هـ.

والمفكر بيجوفيتش يستقرئ ظاهرة فنية مهمة لها امتدادها التاريخي العريق، وهي ظاهرة فنيّة المعمار الديني الذي بلغَ أعظم إلهاماته ــ كما يقول ــ في بناء المعابد في الهند القديمة وكمبوديا وأيضا مساجد العالم الإسلامي، وكنائس القرن العشرين في أنحاء أوروبا وأمريكا، مستعرضًا أسماء أشهر الكنائس ذات التصاميم الجمالية الفريدة، مشيرًا إلى أنّ الأعمال الفنية الكبرى لعصر النهضة تقتصر في تناولها على الموضوعات الدينية بدون استثناء، وأن لوحات "مايكل انجلو" وتماثيله التي نحتها تمثلُ استمرارًا بارزًا للمسيحية، ويمكن الإشارة إليها باعتبارها إنجيلا من ألواح وحجارة، وأن كثيرًا من الإبداع الموسيقي والأوبرا كانتا ذا أصلٍ ديني. ثم إنّ نشيدَ الأناشيد في التوراة أبرز تجلٍ لارتباط الفن بالدين قديما؛ أما بعد الإصلاحية اللوثرية في أوروبا فقد تطورت الفنونُ أكثر، وشهدت طفرة جمالية وتقدمية بعد حركة لوثر، وكانت مكبوتة قبل ذلك، كما كان الفكر كله مكبوتا. يقول اومبيرتو ايكو ــ وهو أحد الروائيين والنقاد اللادينيين الإيطاليين ــ: "من الصعوبة بمكان فهم ثلاثة أرباع الفن الغربي تقريبًا إذا ما كنتَ تجهلُ أحداثَ العهدين القديم والجديد، إضافة إلى قصصِ القديسين".

في الفكر الإسلامي الفنُّ قرينُ الدين؛ إذ ترتبط الفنون بالإنسان في أفراحه بالأناشيد والأهازيج، وترتبط بموته بالمواويل الحزينة والابتهالات الملحنة.
قراءة القرآن إلى نفوس الناس أقرب كلما كان الصوت أجمل، وكلما انتظم على مقام موسيقي معين.
الأذان للصلاة ذاته قائم على مقامات موسيقية معينة، السَّمَاع الصوفي والضرب يزيدُ النفسَ صفاء كلما سجع الصوت وانتظم الضرب. اللوحات التشكيلية والمطرزات والمنمنمات التي أبدعتها الصُّوفية تكاد تكون فنا مستقلا بذاته على امتداد العالم الإسلامي..
زخرفات المساجد ونقوشها النباتية والهندسية عالمٌ من الإدهاش والجمال معا، المعمار الديني بما يشتمل عليه من الأبواب والنوافذ والقباب والمآذن والزوايا والأعمدة والمُصندقات قيمة فنية مستقلة بحد ذاتها. وهي تنتشرُ في كل بيوت العبادات من قديم الزمن.

ذاتُ الشأن أيضا لدى كنائس اليهود أو المسيحيين، وكذا مع معابد الهندوس والبوذيين والزرادشتيين، وكل الأديان. حقا.

لقد تحولت العماراتُ الدينية فنونًا مستقلة عن غيرها من المعمار، ومنذ قديم الزمن، ذلك لأن المعماريين قد أبدعوا في العمارة الدينية ما لم يبدعوه في غيرها، فأضخم المساجد والهياكل والمعابد بدت كأنها من عمل السحر؛ بل لقد نسب بعضُ المتأخرين بعضا من تلك المباني إلى الجن، لعجز الأواخر أن يأتوا بمثل ما أتى به الأوائل في هذا الجانب، وهي صفة غالبة لدى عوام الخلق، إذ ينسبون كل مُدهشٍ وعجيبٍ لقوى غيبية غير القوى المادية الأرضية ـ الإنسانية. وكما قال الشاعر:
وكان أربابُ الفصَاحة كلما رأوا
حُسنًا عدوه من صنعة الجنِّ

ولا تزال معالمُ الفن الإسلامي قائمة إلى اليوم منذ مئات السنين، متمثلة في الجوامع الكبرى، في دمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وصنعاء واستانبول وأصفهان، ناهيك عن فنون وجمالياتِ المسجدين "الحرم المكي والحرم المدني"؛ أما فنون الأندلس ففوق أن تُحكى، أو يشار إليها في عجالة كهذه. وما ينطبقُ على المساجد الإسلامية ينطبق أيضا على كنائس اليهود والمسيحيين في أغلب العواصم والبلدان، فقد تميزت بالإبداع الفني والجمال المعماري البهيج. وقديما قيل: لا يمكن أن يوجد فنٌّ عظيمٌ أو مراحل فنية هامة دون أن تكون ملتحمة بديانات كبيرة.

وتجدر الإشارة هنا إلى القطيعة التي حصلت بين بعض رجال الدين من جهة، والفن من جهة أخرى، وهي قطيعة ناتجة عن جهلٍ بماهيّة الفن والدين معا، وعن ارتيابٍ من كل مجلوب من خارج حدود البيئة، ومن ثقافة الغير المطبوع ذهنيا بصورة سلبية. هذه القطيعة أفضت إلى بعض التوحش الروحي، وإلى "مَيْكنة" الشعائر الدينية، بطريقة آلية، جعلتها مفرغة المحتوى خالية الروح؛ لهذا تخلّقَ العنفُ والإرهابُ من أوساطهم، وسادت ثقافة الرفض والإقصاء والقطيعة؛ لأنّ هذه النفس أغفلت جانبَ الروح، وأغفلت جانبَ الجمال والسّلام الداخلي الذي يتخلّقُ بالفن وتصقله الروح.
د. ثابت الأحمدي